الفعّـــال
قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107، {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }البروج16، ولذلك فهذا الاسم من الأسماء الحسنى، وهو من أسماء النسقين الأول والثاني.
إن الله سبحانه هو الفعال المطلق، وفعله هو ممارسته لمقتضيات ألوهيته في كل عالم من العوالم وفقاً لمنظومة الأسماء الحاكمة على هذا العالم، والفعل يتضمن التأثير، وهو يعنى تحقيق ما اقتضته أسماؤه في كيان ما، والقدرة ليست هي السمة الوحيدة اللازمة للفعل وإنما هي من السمات اللازمة، فالفعل إنما تقتضيه وتحققه وتظهر به منظومة الأسماء التي اقتضته.
والفعل من حيث انتسابه إلى الله تعالى لا يخضع للمعايير والمقاييس والاعتبارات البشرية، ذلك لأن فعله من مقتضيات أسمائه الحسنى أي أسمائه ذات الحسن أي الكمال المطلق فهي معيار الكمال وموازينه أي منها تستمد القيم مفاهيمها ومعانيها، والحق سبحانه يعامل الناس وفق ما ألفوه من قيم ومقاييس، لذلك فهو إذا نفى الظلم عن نفسه مثلا فإنما ينفيه بكل مقياس واعتبار وليس فقط بمقاييس الكمال المطلق بل إن نفى الظلم بمقاييس الكمال المطلق مفصل بنفيه على كافة المستويات، ولكن المشكلة هي في محدودية الإنسان فهو محدود من حيث الزمان والمكان ولا يستطيع أن يحيط علما بسائر الأكوان، فإدراك العدالة السارية في الفعل الإلهي يتطلب الاحاطة بعالمي الدنيا والآخرة، ولكن الإنسان يريد التحقق الفوري للعدالة، ذلك لأنه خلق من عجل فكان عجولا، ولكن ثمة قوانين وسنن لابد من سريانها وثمة مقاصد وجودية ودينية لابد من تحققها، ولو نال كل ظالم عقابه الفوري لتعطل فعل أسماء كثيرة ولما كان ثمة ابتلاء للناس ولقضي الأمر ولما ظهرت كمالات لا حصر لها ولما تحققت المقاصد الوجودية العظمى.
---------------------
إن من يفعل ما هو من مقتضيات كنهه الذاتي وسماته اللازمة لا يكون مكرها على فعله، كما لا يجوز أن يقال أن تلك الأفعال واجبة عليه، وهو سبحانه إذ يعبر عن بعض مقتضيات سماته بلفظ الكتابة فإنما يعبر عن طبيعة القوانين التي اقتضتها سماته، فكونها مكتوبة يعنى حتمية نفاذ آثارها وأنه لا تبديل ولا تحويل لها، فالسمة الإلهية التي لا يدرى أحد كنهها تقتضى قوانين يمكن إدراك آثارها، وكونه كتب على نفسه سمة ما يعنى أن تلك السمة هي الغالبة أي أن لها السيادة فيما يتعلق بأمور مشيئته المطلقة، وذلك يعنى أنه من حيث تلك المشيئة يغلب جانب الرحمة.
إن الفعل أو التأثير الحقيقي هو لله تعالى بالأصالة مثلماً كان كل كمال له بالأصالة، ولكل اسم من أسمائه آلاته وأدواته وجنوده الموكل إليهم التصرف عن أمره، وثمة ملائكة اقتضت ماهية كل منهم أن يزود بروح القدس وهو كيان لطيف من مقتضيات اسم إلهي أعظم، فالتأثير المترتب على فعل ذلك الملك هو تأثير إلهي لأنه لا أهواء ولا ميول ذاتية لدى هذا الملك وإنما هو آلة معتمدة من آلات الحق سبحانه، ومن ألوان التأثير ذلك المترتب على خواص الكيانات، وذلك التأثير يتم بمقتضى القوانين والسنن، إذ لا وجود لكيانٍ ما منعزلاً عن خصائصه وسماته وعن القوانين التي تحكم ارتباطاته بغيره، ولابد لتبادل التأثير من تجانسٍ واتصالٍ ما بين الكيانات.
فهذا الاسم يقتضي كافة الأفعال من الإعطاء والمنع والضر والنفع والقبض والبسط والإماتة والإحياء والتي اشتق منها البعض ما أسموه بالأسماء المتقابلة، وإنما محل التقابل هو عالم الممكنات لا عالم الأسماء، فالأسماء هي منظومة واحدة متَّـسقة لا تضادَّ فيها ولا تقابل، وهذا ما اقتضته الأحدية والصمدية، فهو من حيث هذا الاسم منفِّـذ لقوانينه التي اقتضتها أسماؤه الحسنى فهي أصل القوانين والسنن، وهو أيضا منفِّذ لما قضى به أو حكم به، فهو من حيث هذا الاسم يؤثِّـر ولا يتأثر فهو المؤثِّر المطلق، وإن اقتضى أمره ترتُّب بعض أفعاله على أفعال العباد كالجزاء المترتِّب علي الفعل الاختياري للعبد، فإن العباد بالضرورة هم محل الآثار فإنما هي أعمالهم تردّ عليهم، وهو يستخدم من شاء من ملائكته وعباده كآلات لإنجاز مراده وتحقيق أفعاله.
---------------------
ويظن البعض أنه يفعل ما يريد كما يفعل الإنسان ما يهواه أو ما يحلو له فأخطئوا بذلك في حق ربهم خطأ مضاعفاً إذ شبهوه بخلقه وأساءوا الظن به وكفروا بأسمائه الحسنى، وكان عليهم أن يعلموا أن الإرادة المنسوبة إليه والتي يترتب عليها الفعل تعبر عن جماع مقتضيات منظومة أسمائه الحسنى التي تتضمن كثيراً من الأسماء التي تشير إلى الحكمة بكافة تنوعاتها وبالتالي فالحكمة سارية في كل فعل من أفعاله، ولكي يتحقق الأمر أو الشيء الذي تعين أو تألف بالإرادة لابد من فعل تأثيري من نواتج هذا الاسم أو من نواتج فعل تأثيري آخر كالقول مثلا، فالقول المنسوب إليه سبحانه يؤدى إلي التحقق الخارجي لما نتج عن فعل الإرادة.
وكرمز فهذا الاسم يشير إلي أن انتقال الأمور من بطون إلي ظهور أو من غيب إلي شهادة وتفتحها وازدهارها إنما يتم بأمر منه وهو من مقتضيات شؤونه، ولا بد من كيان خارجي ليكون محلاً لهذا الأمر أو الفعل وليصل إليه التأثير.
------------
والفعل له معنيان، فهو من ناحية ينوب عن كل الأفعال الخاصة الأخرى كالكلام والإرادة والاستدراج والرضي والغضب والحب والتدبير والتصريف.....إلخ ومن ناحية أخرى يعبر عما به يتحقق ما أراد الله أن يتحقق، والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه لأن كل سمات الكمال هي بالاصالة له، فهو الفعال لما يريد، فكل فعل من حيث هو فعل ينسب إليه لأنه كان بمقتضي سننه، أما من حيث محدودية الفعل أو كونه يتضمن مخالفة لأمر شرعي فإنما صدر من حيث النقص الذاتي للمخلوق فهو ينسب إلي هذا المخلوق ولا يجوز أن يوصف به الله تعالي، فالفعل الصادر عن إنسان ما إنما كان بمقتضي طبيعته الذاتية، وهو لذلك يكون محلا لآثار الفعل بمقتضي السنن، وطبيعة الإنسان تتضمن صفات كمال هي مقتضيات سمات الحسن الإلهية في الطبيعة الإنسانية، كما تتضمن تلك الطبيعة صفات نقص هي أمر ذاتي خاص بهذا الإنسان ويتميز به عن غيره، لذلك فهو الأولي بآثار فعله، والله سبحانه لا يتسم بصفات مخلوقاته، ولكن صفات كمالهم النسبي المقيَّد تشير إلى سمات حسنه المطلق، ولولا ذلك لما علموا شيئاً عنه، وكل مخلوقات الله تعالي وكل ما هو لهم من جوارح وإمكانات وقدرات آلات لله U يفعل بها ما يشاء ويستعملها كيف يشاء؛ فهو يعذب المشركين عند القتال بأيدي المؤمنين وهو يحيي الأرض بالماء الذي ينزله من السماء، فالفعل قد ينسب إلى الآلة الظاهرة كما ينسب إلى من استعملها، ولكن يجب الحذر فلا يجوز أن ينسب إليه سبحانه الأفعال التي هي مقتضي النقص الذاتي المحض لهذه الآلات والذي يحوجهم إلى الأكل والشرب وغيره، ومع ذلك فمن حقه سبحانه أن ينسب إلى نفسه بعض شئون عباده علي سبيل التنزل أو للتعبير عن عظم الأمر، ولقد ورد في احدي المرويات قوله: (يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني) فهو يبين هاهنا بأسلوب مجازي مدي خطورة أن يُترك أحد الناس جوعانا.
يقول الكلمنجية في إطار حملتهم علي المعتزلة إن خالق الشر أو الكذب ليس بالضرورة شريرا أو كذابا، وهم لذلك ألزموا الناس بأن يقولوا بأن الله سبحانه هو خالق الشر والكذب وما إلي ذلك...، والحق هو أنه لا يجوز أن ينسب إلي الله U ما لم ينسبه إلي نفسه، ولم يذكر الله تعالي أنه خلق أموراً كهذه أبدا وإنما ذكر أنه خالق كل شيء، والشيء هو في الحقيقة مترتب علي مشيئته، والذي شاءه أن يكون للإنسان الإرادة الحرة والاختيار، كما شاء أن يكون لهما مجال يمارسهما فيه الإنسان فتتحقق بذلك المقاصد من خلقه، والإنسان الذي يفعل الشر إنما يفعل بمقتضى ما هو متصف به من نقص ذاتي، والفعل الإنساني لا يمكن أن يتحقق إلا بمقتضى السنن الكونية الإلهية والتي ترتب عليها كون الإنسان مخيراً في أفعاله، لذلك ففعل الشر يجب أن ينسب إلي الإنسان وحده، ولا يجوز أن ينسب أي أمر يتضمن نقصاً إلي من له الكمال المطلق بأية صورة من الصور، ولا يجوز القول بأن الإنسان يخلق أفعاله، فالفعل من حيث هو فعل إنما يتم بمقتضى السنن وإنما ينسب إلي الله تقويمه له وحكمه عليه، والتقويم والحكم هما من عالم الأمر، فهما ينتجان من أفعال إلهية عديدة اقتضاها ما هو له من الأسماء، فليس الخلق بالفعل الإلهي الوحيد، فهذا ما يجب أن يفقهه الإنسان وأن يتمسك به، والإنسان ملزم بأن يتأدب مع ربه فلا ينسب لمن له الحسن والكمال المطلق أي أمر مشوب بنقصٍ ما، ولله U الحكم المطلق والتقدير المطلق والتقويم المطلق، أما ما ينسب إلي الناس فهي أمور نسبية مقيدة محدودة، وخلاصة القول هي أن كل فعل لا يتم إلا بمقتضى السنن الإلهية وهو من حيث كافة جوانبه الكمالية ينسب إلي الله تعالى، فأسماؤه هي المصدر الأوحد للكمال في الوجود، وهي التي تعطي لكل كمال مفهومه ومعناه، أما ما قد يتضمنه الفعل من شر فإنما يرجع إلي ما لدي الإنسان المكلف المختار من نقص يرجع إلي أصله العدمي، وهو لذلك لا يجوز أن ينسب إلا إليه وكذلك إلي الشيطان الذي سول له وأغواه.
------------
إن الله هو المؤثِّـر الحقيقي والفاعل الحقيقي، فهو الذي يستند إليه كل فعل بمعنى أنه يحققه وينجزه، والإنجاز إنما هو مسبوق بالإرادة ، وليست كل إرادة متبوعة بالفعل، فثمة إرادة المقصود منها بيان القصد أو الغاية أو الحكمة من الأمر التشريعي، قال تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)} (المائدة)، وقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (النساء)، أما الإرادة التي يترتب عليها الفعل فإنما هى مسبوقة بالمشيئة، فهي تتعلق بشيء اقتضته منظومة الأسماء وأوجبت وجوده فارتفعت أحكام عدمه فتعلقت به الإرادة وقرنت بينه وبين المواد اللازمة لوجوده وتحققه ورتبت الأسباب اللازمة لذلك فوجد فى زمانه ومكانه المقدَّرين.
------------
إن الله سبحانه هو الفاعل الحقيقى من وراء حجاب الأسباب، والفعل الصادر من كائن ما إنما يكون حسناً بالنظر إلى عاقبته القصوى وإلى المقصد منه، ولذا فالفعل منسوباً إليه له الحسن المطلق، ذلك لأن أفعاله إنما هى مقتضيات ولوازم أسمائه الحسنى، وكل ما فى الكون من إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به وزراعة النباتات ومن تسخير الشمس والقمر للإنسان .. إلخ إنما هو من فعله لأنه يتم بمقتضى قوانينه وسننه وباستخدام ما خلق من المواد اللازمة وبتدبير الأمر بحيث يتم اجتماعها، والفعل الاختيارى الصادر عن الإنسان إنما ينسب إلى الرب أيضاً بالنظر إلى ما سبق ولو كان الفعل مخالفاً لأمر شرعى لأن هذا الفعل لم يكن ليتم لولا أنه سبحانه قد اذن به بمقتضى القوانين والسنن التى هى مقتضيات أسمائه، ومن حيث أن هذا الفعل منسوباً إليه سبحانه هو حسن لأنه يحقق الغاية منه فهو يكشف عن باطن الإنسان ويخرج الخبء وتتحقق الغاية أيضاً من خلق الإنسان، ونفس هذا الفعل المخالف من حيث صدوره عن الإنسان يعد فعلاً سيئاً لمخالفته الأمر الشرعى وسوء عواقبه على الإنسان المخالف ومن حيث أنه كان من مقتضيات النقص اللازم لطبيعة الإنسان الذاتية، والرب سبحانه يستخدم الناس كآلات له فقد يكون الفعل الصادر عن الإنسان المخالف عقاباً لإنسان آخر وقصاصاً منه بسبب فعل قد صدر عنه يوماً ما، ولذا فالإنسان اليقظ من يتدبر ويتفكر فى كل ما يسمعه من كلام وما يواجهه من وقائع وأحداث، فهو يعلم أن كل الخلق هم بالنسبة إليه آلات بيد الله تعالى يوصل إليه من خلالها ما يشاء.
وكل الأفعال الإلهية مثل الخلق والتقدير والتحقيق والتصوير تنسب إليه سبحانه كما يليق بذاته، ولأنه سبحانه منزه عن الزمان فإن تلك الأفعال متحققة وسارية في كل الأزمنة، فهو سبحانه ليس كمن صنع آلة ووضع لها قوانينها وطريقة عملها وانتهى دوره عند إتمام صنعها، ولكنه يمارس كل ما يمارسه أزلاً وأبداً، ففعله متقدم على كل الأطر الزمكانية بل هو الذي اقتضاها فله الإحاطة بها، وكل الأزمنة لديه سواء، فهو يراقب كل شيء ويدبر كل أمر وإليه يستند كل فعل، وهو يقضى بينهم بحكمه وفق قوانينه وسننه، وكل ما خلقه أدواته وآلاته لتنفيذ مراداته.
المراجع (من كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد):
1- الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2- الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار، 2002.
3- الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار، 2003.
4- المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.
5- المقصد الديني الأول، 2006.
قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107، {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }البروج16، ولذلك فهذا الاسم من الأسماء الحسنى، وهو من أسماء النسقين الأول والثاني.
إن الله سبحانه هو الفعال المطلق، وفعله هو ممارسته لمقتضيات ألوهيته في كل عالم من العوالم وفقاً لمنظومة الأسماء الحاكمة على هذا العالم، والفعل يتضمن التأثير، وهو يعنى تحقيق ما اقتضته أسماؤه في كيان ما، والقدرة ليست هي السمة الوحيدة اللازمة للفعل وإنما هي من السمات اللازمة، فالفعل إنما تقتضيه وتحققه وتظهر به منظومة الأسماء التي اقتضته.
والفعل من حيث انتسابه إلى الله تعالى لا يخضع للمعايير والمقاييس والاعتبارات البشرية، ذلك لأن فعله من مقتضيات أسمائه الحسنى أي أسمائه ذات الحسن أي الكمال المطلق فهي معيار الكمال وموازينه أي منها تستمد القيم مفاهيمها ومعانيها، والحق سبحانه يعامل الناس وفق ما ألفوه من قيم ومقاييس، لذلك فهو إذا نفى الظلم عن نفسه مثلا فإنما ينفيه بكل مقياس واعتبار وليس فقط بمقاييس الكمال المطلق بل إن نفى الظلم بمقاييس الكمال المطلق مفصل بنفيه على كافة المستويات، ولكن المشكلة هي في محدودية الإنسان فهو محدود من حيث الزمان والمكان ولا يستطيع أن يحيط علما بسائر الأكوان، فإدراك العدالة السارية في الفعل الإلهي يتطلب الاحاطة بعالمي الدنيا والآخرة، ولكن الإنسان يريد التحقق الفوري للعدالة، ذلك لأنه خلق من عجل فكان عجولا، ولكن ثمة قوانين وسنن لابد من سريانها وثمة مقاصد وجودية ودينية لابد من تحققها، ولو نال كل ظالم عقابه الفوري لتعطل فعل أسماء كثيرة ولما كان ثمة ابتلاء للناس ولقضي الأمر ولما ظهرت كمالات لا حصر لها ولما تحققت المقاصد الوجودية العظمى.
---------------------
إن من يفعل ما هو من مقتضيات كنهه الذاتي وسماته اللازمة لا يكون مكرها على فعله، كما لا يجوز أن يقال أن تلك الأفعال واجبة عليه، وهو سبحانه إذ يعبر عن بعض مقتضيات سماته بلفظ الكتابة فإنما يعبر عن طبيعة القوانين التي اقتضتها سماته، فكونها مكتوبة يعنى حتمية نفاذ آثارها وأنه لا تبديل ولا تحويل لها، فالسمة الإلهية التي لا يدرى أحد كنهها تقتضى قوانين يمكن إدراك آثارها، وكونه كتب على نفسه سمة ما يعنى أن تلك السمة هي الغالبة أي أن لها السيادة فيما يتعلق بأمور مشيئته المطلقة، وذلك يعنى أنه من حيث تلك المشيئة يغلب جانب الرحمة.
إن الفعل أو التأثير الحقيقي هو لله تعالى بالأصالة مثلماً كان كل كمال له بالأصالة، ولكل اسم من أسمائه آلاته وأدواته وجنوده الموكل إليهم التصرف عن أمره، وثمة ملائكة اقتضت ماهية كل منهم أن يزود بروح القدس وهو كيان لطيف من مقتضيات اسم إلهي أعظم، فالتأثير المترتب على فعل ذلك الملك هو تأثير إلهي لأنه لا أهواء ولا ميول ذاتية لدى هذا الملك وإنما هو آلة معتمدة من آلات الحق سبحانه، ومن ألوان التأثير ذلك المترتب على خواص الكيانات، وذلك التأثير يتم بمقتضى القوانين والسنن، إذ لا وجود لكيانٍ ما منعزلاً عن خصائصه وسماته وعن القوانين التي تحكم ارتباطاته بغيره، ولابد لتبادل التأثير من تجانسٍ واتصالٍ ما بين الكيانات.
فهذا الاسم يقتضي كافة الأفعال من الإعطاء والمنع والضر والنفع والقبض والبسط والإماتة والإحياء والتي اشتق منها البعض ما أسموه بالأسماء المتقابلة، وإنما محل التقابل هو عالم الممكنات لا عالم الأسماء، فالأسماء هي منظومة واحدة متَّـسقة لا تضادَّ فيها ولا تقابل، وهذا ما اقتضته الأحدية والصمدية، فهو من حيث هذا الاسم منفِّـذ لقوانينه التي اقتضتها أسماؤه الحسنى فهي أصل القوانين والسنن، وهو أيضا منفِّذ لما قضى به أو حكم به، فهو من حيث هذا الاسم يؤثِّـر ولا يتأثر فهو المؤثِّر المطلق، وإن اقتضى أمره ترتُّب بعض أفعاله على أفعال العباد كالجزاء المترتِّب علي الفعل الاختياري للعبد، فإن العباد بالضرورة هم محل الآثار فإنما هي أعمالهم تردّ عليهم، وهو يستخدم من شاء من ملائكته وعباده كآلات لإنجاز مراده وتحقيق أفعاله.
---------------------
ويظن البعض أنه يفعل ما يريد كما يفعل الإنسان ما يهواه أو ما يحلو له فأخطئوا بذلك في حق ربهم خطأ مضاعفاً إذ شبهوه بخلقه وأساءوا الظن به وكفروا بأسمائه الحسنى، وكان عليهم أن يعلموا أن الإرادة المنسوبة إليه والتي يترتب عليها الفعل تعبر عن جماع مقتضيات منظومة أسمائه الحسنى التي تتضمن كثيراً من الأسماء التي تشير إلى الحكمة بكافة تنوعاتها وبالتالي فالحكمة سارية في كل فعل من أفعاله، ولكي يتحقق الأمر أو الشيء الذي تعين أو تألف بالإرادة لابد من فعل تأثيري من نواتج هذا الاسم أو من نواتج فعل تأثيري آخر كالقول مثلا، فالقول المنسوب إليه سبحانه يؤدى إلي التحقق الخارجي لما نتج عن فعل الإرادة.
وكرمز فهذا الاسم يشير إلي أن انتقال الأمور من بطون إلي ظهور أو من غيب إلي شهادة وتفتحها وازدهارها إنما يتم بأمر منه وهو من مقتضيات شؤونه، ولا بد من كيان خارجي ليكون محلاً لهذا الأمر أو الفعل وليصل إليه التأثير.
------------
والفعل له معنيان، فهو من ناحية ينوب عن كل الأفعال الخاصة الأخرى كالكلام والإرادة والاستدراج والرضي والغضب والحب والتدبير والتصريف.....إلخ ومن ناحية أخرى يعبر عما به يتحقق ما أراد الله أن يتحقق، والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه لأن كل سمات الكمال هي بالاصالة له، فهو الفعال لما يريد، فكل فعل من حيث هو فعل ينسب إليه لأنه كان بمقتضي سننه، أما من حيث محدودية الفعل أو كونه يتضمن مخالفة لأمر شرعي فإنما صدر من حيث النقص الذاتي للمخلوق فهو ينسب إلي هذا المخلوق ولا يجوز أن يوصف به الله تعالي، فالفعل الصادر عن إنسان ما إنما كان بمقتضي طبيعته الذاتية، وهو لذلك يكون محلا لآثار الفعل بمقتضي السنن، وطبيعة الإنسان تتضمن صفات كمال هي مقتضيات سمات الحسن الإلهية في الطبيعة الإنسانية، كما تتضمن تلك الطبيعة صفات نقص هي أمر ذاتي خاص بهذا الإنسان ويتميز به عن غيره، لذلك فهو الأولي بآثار فعله، والله سبحانه لا يتسم بصفات مخلوقاته، ولكن صفات كمالهم النسبي المقيَّد تشير إلى سمات حسنه المطلق، ولولا ذلك لما علموا شيئاً عنه، وكل مخلوقات الله تعالي وكل ما هو لهم من جوارح وإمكانات وقدرات آلات لله U يفعل بها ما يشاء ويستعملها كيف يشاء؛ فهو يعذب المشركين عند القتال بأيدي المؤمنين وهو يحيي الأرض بالماء الذي ينزله من السماء، فالفعل قد ينسب إلى الآلة الظاهرة كما ينسب إلى من استعملها، ولكن يجب الحذر فلا يجوز أن ينسب إليه سبحانه الأفعال التي هي مقتضي النقص الذاتي المحض لهذه الآلات والذي يحوجهم إلى الأكل والشرب وغيره، ومع ذلك فمن حقه سبحانه أن ينسب إلى نفسه بعض شئون عباده علي سبيل التنزل أو للتعبير عن عظم الأمر، ولقد ورد في احدي المرويات قوله: (يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني) فهو يبين هاهنا بأسلوب مجازي مدي خطورة أن يُترك أحد الناس جوعانا.
يقول الكلمنجية في إطار حملتهم علي المعتزلة إن خالق الشر أو الكذب ليس بالضرورة شريرا أو كذابا، وهم لذلك ألزموا الناس بأن يقولوا بأن الله سبحانه هو خالق الشر والكذب وما إلي ذلك...، والحق هو أنه لا يجوز أن ينسب إلي الله U ما لم ينسبه إلي نفسه، ولم يذكر الله تعالي أنه خلق أموراً كهذه أبدا وإنما ذكر أنه خالق كل شيء، والشيء هو في الحقيقة مترتب علي مشيئته، والذي شاءه أن يكون للإنسان الإرادة الحرة والاختيار، كما شاء أن يكون لهما مجال يمارسهما فيه الإنسان فتتحقق بذلك المقاصد من خلقه، والإنسان الذي يفعل الشر إنما يفعل بمقتضى ما هو متصف به من نقص ذاتي، والفعل الإنساني لا يمكن أن يتحقق إلا بمقتضى السنن الكونية الإلهية والتي ترتب عليها كون الإنسان مخيراً في أفعاله، لذلك ففعل الشر يجب أن ينسب إلي الإنسان وحده، ولا يجوز أن ينسب أي أمر يتضمن نقصاً إلي من له الكمال المطلق بأية صورة من الصور، ولا يجوز القول بأن الإنسان يخلق أفعاله، فالفعل من حيث هو فعل إنما يتم بمقتضى السنن وإنما ينسب إلي الله تقويمه له وحكمه عليه، والتقويم والحكم هما من عالم الأمر، فهما ينتجان من أفعال إلهية عديدة اقتضاها ما هو له من الأسماء، فليس الخلق بالفعل الإلهي الوحيد، فهذا ما يجب أن يفقهه الإنسان وأن يتمسك به، والإنسان ملزم بأن يتأدب مع ربه فلا ينسب لمن له الحسن والكمال المطلق أي أمر مشوب بنقصٍ ما، ولله U الحكم المطلق والتقدير المطلق والتقويم المطلق، أما ما ينسب إلي الناس فهي أمور نسبية مقيدة محدودة، وخلاصة القول هي أن كل فعل لا يتم إلا بمقتضى السنن الإلهية وهو من حيث كافة جوانبه الكمالية ينسب إلي الله تعالى، فأسماؤه هي المصدر الأوحد للكمال في الوجود، وهي التي تعطي لكل كمال مفهومه ومعناه، أما ما قد يتضمنه الفعل من شر فإنما يرجع إلي ما لدي الإنسان المكلف المختار من نقص يرجع إلي أصله العدمي، وهو لذلك لا يجوز أن ينسب إلا إليه وكذلك إلي الشيطان الذي سول له وأغواه.
------------
إن الله هو المؤثِّـر الحقيقي والفاعل الحقيقي، فهو الذي يستند إليه كل فعل بمعنى أنه يحققه وينجزه، والإنجاز إنما هو مسبوق بالإرادة ، وليست كل إرادة متبوعة بالفعل، فثمة إرادة المقصود منها بيان القصد أو الغاية أو الحكمة من الأمر التشريعي، قال تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)} (المائدة)، وقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (النساء)، أما الإرادة التي يترتب عليها الفعل فإنما هى مسبوقة بالمشيئة، فهي تتعلق بشيء اقتضته منظومة الأسماء وأوجبت وجوده فارتفعت أحكام عدمه فتعلقت به الإرادة وقرنت بينه وبين المواد اللازمة لوجوده وتحققه ورتبت الأسباب اللازمة لذلك فوجد فى زمانه ومكانه المقدَّرين.
------------
إن الله سبحانه هو الفاعل الحقيقى من وراء حجاب الأسباب، والفعل الصادر من كائن ما إنما يكون حسناً بالنظر إلى عاقبته القصوى وإلى المقصد منه، ولذا فالفعل منسوباً إليه له الحسن المطلق، ذلك لأن أفعاله إنما هى مقتضيات ولوازم أسمائه الحسنى، وكل ما فى الكون من إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به وزراعة النباتات ومن تسخير الشمس والقمر للإنسان .. إلخ إنما هو من فعله لأنه يتم بمقتضى قوانينه وسننه وباستخدام ما خلق من المواد اللازمة وبتدبير الأمر بحيث يتم اجتماعها، والفعل الاختيارى الصادر عن الإنسان إنما ينسب إلى الرب أيضاً بالنظر إلى ما سبق ولو كان الفعل مخالفاً لأمر شرعى لأن هذا الفعل لم يكن ليتم لولا أنه سبحانه قد اذن به بمقتضى القوانين والسنن التى هى مقتضيات أسمائه، ومن حيث أن هذا الفعل منسوباً إليه سبحانه هو حسن لأنه يحقق الغاية منه فهو يكشف عن باطن الإنسان ويخرج الخبء وتتحقق الغاية أيضاً من خلق الإنسان، ونفس هذا الفعل المخالف من حيث صدوره عن الإنسان يعد فعلاً سيئاً لمخالفته الأمر الشرعى وسوء عواقبه على الإنسان المخالف ومن حيث أنه كان من مقتضيات النقص اللازم لطبيعة الإنسان الذاتية، والرب سبحانه يستخدم الناس كآلات له فقد يكون الفعل الصادر عن الإنسان المخالف عقاباً لإنسان آخر وقصاصاً منه بسبب فعل قد صدر عنه يوماً ما، ولذا فالإنسان اليقظ من يتدبر ويتفكر فى كل ما يسمعه من كلام وما يواجهه من وقائع وأحداث، فهو يعلم أن كل الخلق هم بالنسبة إليه آلات بيد الله تعالى يوصل إليه من خلالها ما يشاء.
وكل الأفعال الإلهية مثل الخلق والتقدير والتحقيق والتصوير تنسب إليه سبحانه كما يليق بذاته، ولأنه سبحانه منزه عن الزمان فإن تلك الأفعال متحققة وسارية في كل الأزمنة، فهو سبحانه ليس كمن صنع آلة ووضع لها قوانينها وطريقة عملها وانتهى دوره عند إتمام صنعها، ولكنه يمارس كل ما يمارسه أزلاً وأبداً، ففعله متقدم على كل الأطر الزمكانية بل هو الذي اقتضاها فله الإحاطة بها، وكل الأزمنة لديه سواء، فهو يراقب كل شيء ويدبر كل أمر وإليه يستند كل فعل، وهو يقضى بينهم بحكمه وفق قوانينه وسننه، وكل ما خلقه أدواته وآلاته لتنفيذ مراداته.
المراجع (من كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد):
1- الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2- الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار، 2002.
3- الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار، 2003.
4- المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.
5- المقصد الديني الأول، 2006.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق