الاثنين، 8 يونيو 2009

من أسماء الله الحسنى: الحكيـم العليــم

الحكيـم العليــم
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ }النمل6 * {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }الزخرف84 * {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }الذاريات30 * {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }الأنعام83 * {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }الأنعام128 * {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ }الأنعام139 * {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }الحجر25.

فالاسم بذلك من الأسماء الحسنى ومن أسماء النسق الأول.
وهذا الاسم ينتمي إلى منظومة سمة الحكمة والتي تتضمن الأسماء: الحكيم العليم، العليم الحكيم، الحكيم، العزيز الحكيم، الحكيم الخبير، الحكيم الحميد، العلي الحكيم، التواب الحكيم.
وهو أيضا من تفاصيل حلقة إلهية هي: "الحكيم العليم-العليم الحكيم"، وهي بعينها: " العليم الحكيم-الحكيم العليم".

وهذا الاسم يشير إلى سمة واحدة تفصيلها الحكمة المقترنة بالعلم والمتقدمة عليه، لذلك فمن لوازمها الإحاطة بالأمور المحكمة حال تفصيلها وبالأمور الباطنة حال انكشافها وظهورها وبالكائنات النامية حال تفتحها وازدهارها.
وهذا الاسم يقتضى أن يكون كل أمر مفصل أو ظاهر أو كثيف مسبوقا بأمر محكم باطن لطيف، لذلك فهذا الاسم يقتضى إنزال الأمر من السماء إلى الأرض، والتفصيل مقترن بالإنزال ومرتبط به، ولذلك كان تلقى القرآن من لدن هذا الاسم.
فمن حيث الاسم الحكيم العليم فإن الأمر يتنزل من إحكام إلى تفصيل ولا يخاطب سبحانه قوماً إلا بما يلائمهم، وكلما استعدوا لأمر جديد أنزله عليهم، لذلك كان لابد من تطور الشرائع بمعنى أن تأتى شريعة جديدة تنسخ القديمة وتبقى على ما هو صالح منها، واستمر ذلك إلى أن تمت كلمات الله تعالي صدقاً وعدلا وجاء الدين الخاتم الذي نسخت آيته آية ما كان قبله، ومن حيث أن هذا العمل مرتبط بالتطور البشرى فإنه محكوم بالقوانين والسنن الخاصة بهذا الكون وتلك القوانين لا تقيِّد الحق سبحانه، وإنما هي مقتضيات أسمائه التي هي لوازم وجوده، وكونه سبحانه منزهاً عن الزمان يجعل كل اللحظات متكافئة عنده، لذلك فليس ثمة لحظة زمنية في الزمن السحيق كتب فيها كل شيء وقدر فيها وخلق كل شيء ثم بدأ العرض كما يتصور الناس، بل إن الأمر كما هو مشاهد، فتعين الماهيات وتحققها هو عمل إلهي مستمر يسترسل مع كل عالم وفق مقتضيات هذا العالم، وبذلك كان الرب سبحانه أقرب إلى عبده من نفسه، أما أفعال الإنسان فهي محكومة بالطابع الاحتمالي، والعلم الكامل إنما يتعلق بالأمر على ما هو عليه، والرب سبحانه لا يقيم الحجة على إنسان بما علمه عنه وإن كان حقاً وإنما بما صدر بالفعل عنه.
والرسل هم المصطفون لكي يكونوا آلات تفصيل وبيان الأوامر الشرعية المجملة أو المحكمة وإبلاغها للناس ثم استخلاص الأمر المجرد من جديد ورفعه إلى السماء، لذلك فالحق يستعملهم للضبط النهائي للأحكام الشرعية، وبالتالي فتلك الأحكام قابلة للتعديل من رسالة إلى رسالة وأثناء نمو واكتمال الرسالة الواحدة، ولا يعنى هذا صحة القول بالنسخ الاصطلاحي المزعوم ولكنه يعنى إقرار سنن التطور والتدرج ويبين طبيعة المهام المنوطة بالرسل.
وهذا الاسم هو الذي هيمن على المرحلة المكية لأن مجالاته وميادينه هي الأمور العقائدية.
فالاسم الحكيم العليم يشير إلى سمة واحدة تفصيلها الحكمة المقترنة بالعلم مع تقدم الحكمة، ولذا فهو أقرب إلى الذات من الاسم العليم الحكيم، ذلك لأن تقدم الحكمة هو الأمر الطبيعي، فالأمور لديه في المراتب العليا محكمة ومقترنة بحكمتها، وذلك الإحكام يسبق التفصيل الذي يقتضي التنزل والظهور وهو مجال العلم.
فهو سبحانه يدبر الأمر من السماء حيث يكون أكثر إحكاماً إلى الأرض حيث يكون أكثر ظهوراً وتفصيلاً، ولذا فسلطان الحكيم يظهر جلياً في السماء حيث العالم اللطيف عند نزول الأمر منها وعند عروجه فيها، وسلطان العليم يظهر في الأرض حيث العالم الكثيف وحيث يغلب التفصيل والظهور، ويصبح الأمر قابلاً للإدراك البشري.
فالحكيم العليم هو الذي يقتضي ويعين حقائق الكائنات وماهياتها التي هي محكمة وقابلة بالضرورة للتحقق والتفصيل، وهو الذي يؤلف ويرتب من الوقائع والأحداث والأمور ما يختبرها به حال وجودها، وهو الذي يحكم في الأمر ويفصِّله فيتعلق به العلم، ولذا فإنه هو الذي يعامل كل كائن وفق استعداده ولا يجزيه إلا وصفه، والحكيم العليم هو الذي يتلقى منه الرسول القرآن الكريم.
فتلقِّي القرآن يكون بتفصيله الذي هو عين تنزيله وإلقائه في قلب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فمن محله حيث هو محكم إلى قلب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يفصَّل يتولى هذا الأمر الاسم الحكيم العليم، فالقرآن يسبق إحكامه وإجماله تفصيله وفرقانه، ولذلك أيضاً نزل منجَّماً ولم ينزل دفعة واحدة كالإنجيل .
والله سبحانه من حيث هذا المثني جامع لكل شيء جمعاً تاماً من كل الحيثيات فهم محشورون عنده حشرا معروضون عليه صفاً، فليس ثمة فواصل زمانية أو مكانية عنده، والنتيجة عنده مقترنة بسببها، وإنما يتقدم السبب من حيث المرتبة فقط، ولكن الأمور من حيث هذا العالم تقتضي زمناً.
وهو أيضاً من حيث ذلك الاسم له الحجة البالغة، فهو يرى الحكمة وهي تتحقق وتظهر وتفصل ولا تحتجب عنه بما لا يتناهى من التفاصيل والمشاهد، كما أنه ليس بحاجة إلى إعمال فكر أو كدح ذهن لاستخلاص تلك الحكمة من التفاصيل والمشاهد .

وهذا الاسم يشير إلى مثنى من المثاني التي أوتيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان لديه استعداد فطري لإدراك الحكمة دونما حاجة إلى استخلاصها من الوقائع والأمور، وبهذا استحق أن يؤتى جوامع الكلم، وكانت له بذلك الحجة البالغ والحكمة الباهرة، وكان له إدراك تام بالأمور الكلية والمقاصد العظمى، ولذلك كان لابد له من ثلة من السابقين الأولين يظهر بهم بعض ما انطوى عليه من كمالات محكمة، وبالحكمة والحجة كان يسبق كل الخلائق سبقاً ذاتياً لا سبيل لهم إلى تعويضه، كما أنه كان لا يبدي اهتماماً شديداً بالشرائع الجزئية والتحريم والعقوبات والجزاءات، وأمر بدرء الحدود بالشبهات، وأمرهم بألاَّ يكثروا من السؤال في أمور الحلال والحرام، وحذَّرهم من ذلك .
وتشير الآية: {وَإِنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الحجر: 25) إلى مقام عظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم المشهود، فهو هنالك صاحب لواء الحمد والشفاعة العظمى والقضاء النافذ عن أمر الله تعالى، ولما كان هو الرسول الوحيد الذي له هذا المثنى فقد حقّ له أن يتلقى القرآن، كما حقّ له أن يكون خلقه القرآن، فباستحقاقه هذا المثنى استحق أن يؤتى القرآن العظيم .
ومن مقتضيات هذا المثنى أن يحترم الإنسان الأسباب الظاهرة وقوانين الله تعالى وسننه في خلقه وأن يحث الناس على احترامها وتوقيرها وتدبرها والعمل على الاستفادة منها، ولذا فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخذ بالقوانين والسنن والأسباب في كل أمور حياته، وكان يحاجّ الناس بالآيات التي في الآفاق وفي الأنفس، وجعل من الآيات المألوفة الظاهرة وسنن التاريخ برهاناً على صدق دعوته.
ومن مقتضيات هذا الاسم أن يراعى حال الناس وألاَّ يخاطب أحداً إلا على قدر إمكاناته وملكاته وألاّ يخاطب أي فرد إلا بما يوافق استعداده، وألا يبادر إلى إبداء ما لديه من علم أو لاستعراض ما لديه من قوى وإمكانات ، فلا يبديها إلا بقدر ما تقتضي الحكمة وتحتم الظروف.
ولما كان المثنى الحكيم العليم هو المثنى الذي آتاه الله تعالي لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيتاءً خاصاً مؤكدا فإنه لم يكن ميَّالاً إلى الإكثار من التشريعات الجزئية، وكذلك أعطى للمؤمنين أوامر بيِّنة بألا يكثروا من السؤال عن هذه الأمور، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما معناه: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)، وكذلك: (إن أعظم المسلمين جرماً رجل سأل عن شيء لم يحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته)، ذلك لأن المثاني التي أوتيها تقتضي أن تكون رسالته خاتمة عالمية عامة، أي أن يكون التركيز فيها على مقاصد الدين العظمى، فقد كان يعلم مسبقاً الحكمة في الأمور، ولم يكن بحاجة إلى استخلاصها من آلاف التفاصيل، لذا كان اهتمامه دائماً بالأمور الكبرى، وكان يريد بذلك أن يترك القدر الأعظم من الأمور داخلاً في دائرة المباح، أو أن يحكم فيه بالقوانين الطبيعية وبالعرف السائد استرشاداً بمقاصد الدين العظمى، ولذلك أيضاً كان يفضِّل دائماً العفو والصفح والإغضاء فيما يتعلق بالذنوب والآثام التي ارتكبت في عهده، ومنها ما يعد جرماً خطيراً في حقه هو كفعل من خاضوا في حديث الإفك، أو من قالوا: (لئِنْ رجَعْنَا إِلى المَدِينةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْها الأَذَلَّ)، أو من خذلوه وتخلوا عنه في المعارك الحرجة وفروا من حوله، بل إن من الذنوب التي تغاضى عنها ما يرقى إلى درجة الخيانة العظمى مثلما حدث ممن أوعز إلى اليهود أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيذبحهم، أو ممن أرسل يفشي عزم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فتح مكة لقريش متعللاً بحجج واهية.
والمرويتان تشيران إلى أنه كان مفوضاً إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعالج أمر بعض التشريعات الجزئية بمقتضى ذوقه الخاص وتمرسه بأمور قومه.
أما غضبه ممن تشفَّعوا إليه في أمر المخزومية التي سرقت فليس لأنه كان مولعاً بإقامة الحدود إذ كان يحاول دائماً أن يدرأها ما استطاع، ولكنه غضب لأن قريشاً بشفاعتها تلك قد ارتكبت ما يخالف مقصداً من مقاصد الدين وركناً من أركانه وهو القيام بالقسط والحكم بين الناس بالعدل وهذا يستلزم تساوي الناس كلهم أمام القانون، قال تعالى:
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ } (الحديد: 25)، وقال: { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } (النحل : 90)، وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } (النساء: 58)، وهكذا فإن الله يأمر بالعدل، وجعل قيام الناس بالقسط من مقاصد إرسال الرسل، ولذا لم يكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعفي من سرقت، فإنه جاء لإبطال حكم الجاهلية الذي لا يسوي بين الناس أمام القانون، وهو عين ما طلبته قريش التي كانت عصبية الجاهلية داؤها الوبيل الذي مازالت الأمة إلى الآن تدفع ثمن عواقبه.
وهذا الاسم من الأسماء التي اقتضت الكيانات الإنسانية الجوهرية وخاصة القلبية الذهنية منها، ومن مقتضياته ملكات التحليل وملكة تتبع الحكمة أثناء تفتح الأمور وتحقق التفاصيل، وهو الذي يقوم بتفصيل ما يجب من استجابات وردود أفعال ترسل إلى الحواس المختلفة بعد أن يستخلص الدماغ الأمر المحكم من كل ما يصله عن طريق الحواس.
ومن كان لحقيقته حظ كبير من السمة التي يشير إليها هذا الاسم يكون لديه إدراك مبهم لبعض الأمور الخاصة، ثم تسعي تلك الأمور من خلاله إلى التحقق والظهور، وهو يجد نفسه مسوقاً إلى ذلك مع اتساق ذلك مع مقتضيات طبيعته الذاتية.

إن سمة الحكمة هي ما يسميه البعض بالعلم السابق ومجالها هو الأمور المحكمة أي الإجمالية الجامعة والأمر المحكم هو من حيث طبيعته قابل لأن يفصل، وهو أيضاً الأمر الذي ترتب على التفصيل بالتجريد والاستخلاص، وتفصيل الأمر إنما يتم في عالمه اللائق به والمناسب له والحكمة المقترنة بالعلم تتعلق به أثناء انتقاله من الإحكام إلي التفصيل، بينما يتعلق به العلم حال كونه مفصلاً، والمعلومة المحصلة هي عين حقيقة الشيء المفصل فهي ليست بصورة ذهنية له كما هو الحال مع الإنسان، فالمعلومة بالنسبة إليه سبحانه هي عين الشيء، وتحقق كائن ما هو عين ظهوره ووجوده وصدور الآثار عنه، وهو أيضاً عين تفصيل وظهور بعض الكمالات الإلهية.
أما علم الإنسان فمجاله هو الصور القلبية الذهنية التي كونها من حيث هو كيان له أدوات استشعار ومراكز سيطرة وتحكم ومعالجة للمعطيات الخارجية، والإنسان ذو كيان خاص مميز وفريد ولا مراء في ذلك، وفيما يتكون لديه من الصور المصداقية اللازمة التي تكفل له وتوفر له حق الانتفاع بكياناته الخاصة وكذلك بالكيانات الخارجية والتعامل معها بما لديه من الصور الداخلية وبحيث يستطيع بذلك تحقيق الغاية من وجوده.
والحق سبحانه ليس بمحل للمعلومات وإنما له أن يتخذ مما يشاء من كائنات محالاً لتلك المعلومات، ومن حوافظ المعلومات اللوح المحفوظ والإمام المبين، ومن تفاصيل ذلك حوافظ الملائكة وخواص البشر، فكل ذلك من آلاته وأدواته وهو مالكها بالأصالة، فعلمه الذي هو سمته الذاتية لا يتغير أبداً لأنه عين الكمال اللانهائي المطلق.
وبجريان الأمور في العالم وتحققها وبسريان القوانين والسنن تستجد أمور وتتألف ماهيات وحقائق ويكون هنالك تدابير ممكنة ومحتملة ومحل كل ذلك هو الكيانات المناسبة أيضاً، فليست الألواح الحافظة بموجودة هنالك في ركن قصي ظاهر من أركان الكون، وإنما هي تجل عن التقيد المكاني أي أنها متداخلة مع هذا العالم.
------------
لزوم الحكمة السابقة
إن كل كيان خلقي أو أمري محفوف بالحكمة، والحكمة التي اقتضت وجود هذا الكيان أو ترتب عليها تحققه هي الحكمة السابقة، أما التعبير عن ذلك فهو أمر خاضع لمدى قدرة المعبر علي البيان باستعمال ما ألفه الناس من المصطلحات، فقد يقول قائل إن وجود المخلوق معلل بالحكمة أو مسبب بالحكمة أو مترتب على الحكمة، ولا ينبغي التعنت في كيفية التعبير بعد إحكام ما سبق بيانه.
ومصطلح السببية هو تعبير غير دقيق تماماً عن لزوم الحكمة السابقة، وتستند السببية إلى كون كل ما في عالمي الخلق والأمر من مقتضيات الأسماء الإلهية، فهي منتهى المنتهى لكل سلاسل الأسباب ولذلك فهي تستند إلى كنه وسمات منظومة الأسماء الحسنى وكيفية ترتب الأسماء فيها، ذلك لأن بعض الأسماء هي تفصيل لأسماء أعظم إحكاما وإحاطة فبعض الأسماء الفردية هي تفاصيل للمثانى أو للحلقات الإلهية، ومن حيث الأسماء الحسني تستند السببية إلي الحلقات الإلهية التي تتضمن وتشير إلى سمات الحكمة، وقطبا هذه الحلقات هما الاسمان الحكيم العليم والعليم الحكيم، والاسم الرئيس الذي تستند إليه الحكمة السابقة هو الاسم الحكيم العليم، فذلك الاسم هو الذي اقتضى معنى السببية في عالم الأمر وكل ما ترتب على هذا المعنى في عالم الخلق، وترتب الأسماء في أنساق هو الذي اقتضى علي المستوى الكوني أن يكون للألطف التحكم والتقدم والسيطرة والهيمنة على الأكثف واستناد كل شيء كثيف إلى أمر لطيف واستناد الكل فى النهاية إلى اللطيف المطلق، أما ما يظنه الإنسان من العشوائية في بعض الأمور فإنما يكون بسبب استناد تلك الأمور في النهاية إلى طلاقة المشيئة والتي تشير إلى لاتناهى الأسماء الإلهية، كما تعني أن لله وحده الحق في تقدير الأمور وتدبيرها وتصريفها، وترجع السببية أيضا إلى أن بعض الكيانات في العوالم المختلفة أو في نفس العالم تكون من مقتضيات نفس الاسم أو من مقتضيات اسمين أو أكثر من تفاصيل اسم واحد، فلما وجد كل كيان في عالمه الخاص كان لابد من ارتباطٍ ما بين تلك الكيانات هو المعبر عنه بالسببية أو العلية، والقوانين والعلوم إنما تعبر عن تلك الارتباطات الذاتية أو المتبادلة، وهى المجال الذي يمكن أن تتعلق به ملكات الإنسان، وتلك الملكات لا يمكنها إدراك الكنه الحقيقي للأشياء المترابطة، وحتى ما يظن الإنسان أنه يعلمه عن الأشياء كالكتلة والشحنة مثلا بالنسبة للجسيمات الأولية فليس إلا نسباً وارتباطات بين أشياء لا يعرف في الحقيقة كنهها، فالصورة التي لدى الإنسان عن شيء ما هي محصلة التفاعل بين ملكاته وبين هذا الشيء، وكون تلك الصورة لا تتفق مع الكنه الحقيقي للشيء لا ينفى وجوده كما لا يُلزِم الشيء بألا يكون إلا كما تصوره الإنسان.

ويقتضى هذا الاسم من الإنسان أن ينمى قدراته على التحليل والتفصيل وألا ينشغل بالفرعيات والجزيئات وكل أمر صغير عن الأمر المحكم الأصلي الكبير، وأن يكون قوى الحجة والبرهان، وأن يتدبر القرآن وأن يقرأه كأنه يتلقاه من ربه وكأنه ينزل عليه لتوه، وأن يعلم أن كل شيء محشور إلى ربه فيحترم كل كائن إجلالاً لمن اعتنى به وخلقه وأبرزه من عدم إلى وجود وأن يخاطب الناس على قدر ما أوتوا من ملكات وإمكانات وألا يتباهى أو يتفاخر عليهم، وعليه أن يقر بخضوع كل شيء لمقتضيات الألوهية وبأن حكم الله سارٍ في السماوات وفى الأرض، وعليه أن يقوم بالأدب اللازم تجاه تجليه سبحانه بالألوهية، فهذا الاسم يقتضى من الإنسان تنمية الملكات الذهنية مثل الحكمة والقدرة على تطبيق القانون الكلى على جزئياته واستخراج التفاصيل من الأمر المحكم الكلى واللوازم من الحقائق الأولية والقدرة على رؤية الأمر الجامع الكلى وعدم الغفلة عنه حال تفصيله والقدرة علي إقامة الحجة والبرهنة على الأمور ورؤية المبادئ الأولية بالحدس والبصيرة والوعي بالأصول والأسس وعدم الانشغال بالتفاصيل عن الأمر المحكم ولا بالفروع عن الأصول ولا بالوسائل عن الغايات، كما يقتضي هذا الاسم من الإنسان النظر إلى روح القوانين والشرائع وأن يعلم أن الحكمة قد سبقت وسببت وترتب عليها إيجاد كل كائن وتدبير كل أمر أو إصداره أو تقديره وتفصيل كل آية و سنّ كل قانون، فما من شيء وجد إلا وقد سبقته الحكمة ووسعته الرحمة.

إن علمه سبحانه هو سمة واجبة بمعنى أنها سمة ذاتية كاملة مطلقة لانهائية، وهو سمة تتعلق بالتفاصيل، والتفاصيل لا تتناهى، فمجال سمة العلم التي لا تتناهى هو المعلومات التي لا تتناهى، وهذا الأمر خارج نطاق الزمان ومحيط به إذ ليس الزمان نفسه في المرتبة العلمية إلا معلومة أيضاً، فالأشياء من حيث الاسم العليم معلومات، وقد تتغير حالة المعلومة بيد أن العلم لا يتغير لأنه سمة واجبة مطلقة، وخلطهم بين السمة ومجالها هو الذي دفعهم إلى نفى علمه سبحانه بالجزئيات، والحق هو أنه سبحانه بكل شيء عليم، والعلم يتعلق بالمعلومات على ما هي عليه، فالذي حاولوا نفيه عنه هو في الحقيقة مجال سمته العلمية، أما العلم بالكليات الكبرى والقوانين الكلية والأمور قبل تفصيلها فهو مجال سمة الحكمة؛ أي مجال الاسم الحكيم والاسم الحكيم العليم، أما التفاصيل الجزئية التي لا تتناهى فهي مجال الاسم العليم والاسم العليم الحكيم، وثمة إدراك لاحق للتفاصيل الجزئية وهو يكون من حيث الكائنات السامية كالأنبياء والمرسلين، لذلك فإنه أنيط بهم الضبط النهائي للتشريعات الجزئية وتكلم الحق من خلالهم ونسب إلى نفسه أفعالهم من حيث أنهم آلات بيده وليس لهم من أمر أنفسهم شيء، فالحق سبحانه ينسب العلم الحادث المتجدد للرسول إلى نفسه من تلك الحيثية، فهذا العلم اللاحق منسوب إلى الله ورسوله في نفس الوقت، كما ينسب تحريم بعض الأشياء إلى الله ورسوله من نفس الحيثية، وثمة علم تفصيلي مترتب على وجود الناس وأفعالهم وهو يختلف بالطبع عن العلم (أي المعلومات) التي تسبق الوجود أو الفعل والذي هو أمر مقدر، وهذا يعنى أن المعلومات المقدرة أو المتوقعة تختلف من حيث الطبيعة وربما المضمون عن المعلومات المتحققة، فهما لا يتطابقان من حيث هذا المضمون إلا بالنسبة إلي الرب سبحانه، وإنما تقام الحجة بالمعلومات المتحققة وتترتب الآثار والنتائج عليها، فالمعلومات السابقة لا أثر لها في الفعل، وإنما يظهر كمال العلم بتطابق مضمون المعلومات اللاحقة مع تلك المقدرة السابقة دون أن يكره الحق عبده علي أن يفعل ما علمه منه من قبل، وترتب بعض الأفعال الإلهية على أفعال الناس يتم وفقاً للقوانين والسنن، وهو منصوص عليه في الكتاب، والرب سبحانه لا يرتب الآثار والنتائج على ما لديه من معلومات وإنما على الأفعال الاختيارية الصادرة عنهم كما أخبرهم وأنبأهم، ذلك لأنه لابد من أفعال إلهية تصاحب تحقق الوقائع والأحداث، وهو سبحانه مع الناس يسمع ويرى في كل زمان ومكان دون أن يقيده زمان أو مكان، وذلك من لوازم إحاطته الذاتية بكل زمان ومكان، والعلم السابق لا يعنى أنه قد كان في لحظة ماضية في الزمن السحيق إذ ليس ثمة زمان قبل الزمان، ولكنه يعنى المعلومات السابقة على التحقق الفعلي للأمر، فكل أمر لابد له من زمان لم يكن فيه شيئاً مذكوراً ثم اقتضته المشيئة فصار شيئاً في عالم الأشياء المناسب له والمنزه عن الزمكان المعلوم، ثم تعلقت به الإرادة فترتب على ذلك فعل تأثيري مناسب كالجعل أو القول كن أو الفعل فتحقَّقَ هذا الشيء وظهر ككيان في الزمكان، فمرحلة الشيئية أي وجود حقيقة الكيان في العالم الباطن تسبق بالضرورة ظهوره وتحققه في عالم الشهادة أو العالم الظاهر، أما كل ما هو منسوب إلي الإله الأقدس من أمور كالاقتضاء والإرادة والفعل والقول فكلها منزهة عن الزمان وعن المكان وبالتالي فهي متحققة في كل زمان ومكان

المراجع (كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد):
1- الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2- الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار، 2002.
3- الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار، 2003.
4- المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.
5- نظرات جديدة في الحقائق والأصول، 2005.
6- نظرات جديدة في المصطلحات، 2005.
7- نظرات جديدة في الآيات، 2006.
8- من هدي الآيات، 2006.
9- المقصد الديني الأول، 2006.
10- الأسس النظرية لدين الحق، 2006.
11- نظرات إضافية في المصطلحات، 2007.
12- نظرات عامة جديدة، 2007.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق