الجمعة، 26 يونيو 2009

الأول والآخـر والظـاهر والبـاطن

الأول والآخـر والظـاهر والبـاطن
قال تعالى: { هُوَ الأوّلُ وَالاَخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (الحديد : 3).
فطبقاً لأسس استخراج الأسماء فإن ( الأول والآخر والظاهر والباطن ) هو اسم واحد يعبر عنه بكل تلك الألفاظ، وهذا الاسم هو من أسماء النسق الأول من الأسماء الحسنى، وهو يشير إلى سمة واحدة من اللوازم الذاتية للماهية الإلهية، وهذا الاسم هو الحلقة الإلهية الجامعة التي اقتضت كل الحلقات الإلهية وما ترتَّب عليها من حلقات كونية لازمة لتمام الجلاء والاستجلاء، وهو المحيط بكل ما ترتب على تلك الحلقات من مظاهر ملكية وفلكية وإنسانية، فهذا الاسم هو المحيط بالزمان وبالمكان وباللطائف والكثائف وبكل تدبير وتفصيل وبكل نزول ومعراج، وسمة البقاء من لوازم هذا الاسم، فإن من له الإحاطة بالزمان لا يمر عليه زمان، بل كل المحور الزماني ماثل عنده يرى الماضي كالحاضر كالمستقبل فما ميَّز تلك الأمور إلا وجود الإنسان، فكل أمر ينزل من عند الله سبحانه من حيث هو أوَّل يزداد بالتنزُّل عبر السموات تركُّبا وتكثفاً بما يغلفه من لطائف متعددة إلى أن ينتهي إلى ذلك العالم المادي الكثيف، ولكنه سبحانه محيط أيضاً بهذا العالم المادي فيتلقاه هنالك من حيث هو آخر، ويتم ظهور الأمر وتفصيله فتظهر بذلك كمالات إلهية، فكل مقتضيات الأمر في العالم الكثيف من آيات وآلاء مظاهر وهو الظاهر، ثم يتم بواسطة الإنسان استخلاص وتجريد الأمور اللطيفة من كل المظاهر الكثيفة للأمر النازل، وتعرج إليه الملائكة بالأمر اللطيف حيث ينزع عنه في كل طبقة غلاف كان قد اكتسبه من قبل، وبذلك يعود باطناً كما كان ولكن بعد أن تغير وتطور، فيعود إليه من حيث هو الأول ولكنه يعود إلى النقطة التي صدر منها بعد أن صارت إلى أفق إلهي أعلى لتبدأ بذلك دورة جديدة .
وهكذا فالحلقات الكونية تأخذ صورة لولبية بمعنى أنه بالانطلاق من نقطة ما ثم بإتمام دورة كاملة تكون العودة إلى نفس النقطة ولكن بعد أن انتقلت إلى مستوى أعلى أو أدنى طبقاً لطبيعة الأمر هل هو نازل أم صاعد ، وخير ما يرمز إلى اللولب برسمه هو حرف الواو العربي فهو حلقة تتضمن نزولاً أو معراجاً، وهو أيضاً أوله عين آخره ولكن في مكان آخر من حيث الرسم وفي زمان آخر من حيث اللفظ، ووجوده المتعدد في الاسم إشارة إلى السماح بوجود الحلقات الكونية التي اقتضتها الحلقات الإلهية، فتلك الحلقات الكونية إذن هي التي اقتضت الزمان والمكان على مستوى هذا العالم المادي، فإن هذا العالم المادي محدود ولا يستطيع أن يستوعب الحلقات التي لا تتناهى، ولابد على مستوى العالم المادي من أن يأخذ تحقق الأشياء وترتب النتائج على الأسباب فواصل زمانية مكانية ، ومن هنا نشأ مفهوم الزمان والمكان، ولذا فوجود الواوات في هذا الاسم هو الذي يستند إليه وجود الزمان والمكان على المستوى الكوني .
فإلى ذلك الاسم تستند كل الحلقات الكونية الملغزة التي يجهلها الإنسان مثل هل الجسيم أسبق أم المجال ؟ أو هل الإنسان كان نتيجة حتمية لما سبق؟ وهل هو صائر حتماً إلى مصير معلوم؟ وهل هو مكتوب عليه كل ما سيفعله أم هو حرّ له إرادة واختيار سيترتب عليهما مآله وعاقبة أمره؟ وهل ماهيته سابقة علي وجوده؟ أم أن وجوده هو السابق؟
فهذا الاسم هو الذي اقتضى الحلقات الكونية لأنه يقتضي أن ينشأ كل أمر منه وأن ينتهي بعد تمام دورته إليه، فمنه التنزل وإليه العروج، كما أنه هو الذي يقتضي انتقال الشيء من ظهور إلى بطون أو من بطون إلي ظهور، لذلك فهو الذي اقتضى الزمان والمكان، ذلك لأن تمام جلاء الأمر واستجلائه يقتضي تفصيلاً وتغيُّراً وهذا هو أصل الزمان، كما أن خروج الأشياء من بطون إلى ظهور يقتضي المكان بمفهومه الواسع، كما يقتضي أيضاً كل المفاهيم المألوفة كالعدد مثلاً، فإن ظهور الأشياء يقتضي تميزها بالنسبة إلي بعضها البعض، كما يقتضي علاقات نسبية وتبادلية، فينشأ عنها المكان بالنسبة إلي الكائنات الكثيفة، وإنما نشأ العدد من ملاحظة الأشياء المادية المندرجة تحت ماهيات كلية، وكل تلك التفصيلات إنما تميزت بالإنسان فهو أداة التمييز والتفصيل التام والتجريد .
---------------------
إن الله سبحانه ليس من نوع الكائنات ولا من جنسها ولا من مادتها فلا يقارن شيء منها به، وإنما له السمة المشار إليها بهذا الاسم بطريقة مطلقة، فهو الأول لأنه هو الذي يبدأ الخلق واليه يستند كل كيان خلقي أو أمري ويستمد منه كل ما هو له وهو الآخر لأن إليه المرجع والمآل وانتهاء كل المعارج والحلقات الكونية، وهو الظاهر لكل ما سبق ذكره، فما لديهم من سمات كمال بدءوا بها أو انتهوا إليها إنما تشير إلى ما له من سمات الكمال وتفصلها، ولذا فله كل فعل وتأثير، فهو الباطن الذي يسير ويحرك ويقود كل ما ظهر من الكائنات ويستخدمها كآلات لتحقيق مقاصده مراعيا في ذلك ما هو لها من لطبيعة الذاتية، ولأنه الأول والآخر فله الإحاطة الذاتية المطلقة بكل الإطارات الزمانية المكانية اللازمة لمجالات خلقه، ولأنه الأول والآخر والظاهر والباطن فهو الذي اقتضى كل الأطر الزمكانية اللازمة لكل عالم من العوالم ولكل كون من الأكوان.
---------------------
إنه إذا كان ثمة تضاد على المستوى البشرى بين مفهومي الأول والآخر مثلا فلا يمكن أن يتصف الإنسان بالصفتين من حيثية واحدة فإن الحق سبحانه ليس كمثله شيء، لذلك ليس ثمة تضاد أو تقابل في أسمائه، فلا تضاد بين أن يكون الأول وبين أن يكون الآخر، بل إن هذا يعنى تنزهه عن أحكام الزمان وإحاطته التامة به وبكل الحلقات الوجودية، فمنه كان ابتداؤها وإليه يكون انتهاؤها، وهو الظاهر ليس بمعنى أنه عين وجود الظواهر من كائنات وكيانات بل لأنها من مقتضيات أسمائه وسماته وبها يمكن أن تظهر كمالاته، وهو الباطن من حيث أنه لا يمكن لكائنٍ ما إدراك كنه أسمائه أو سماته فضلا عن كنه ذاته، ومن حيث أنه المحرك الخفي والآخذ بنواصي كل الدواب من حيث لا يشعرون.
فاتصافه سبحانه بالصفتين المتقابلتين وفقا لمفاهيم البشر مع وحدة ذاته المطلقة يعنى علوه على كل المعايير والمقاييس البشرية.
---------------------
إنه عند النزول والتفصيل تكون المرتبة السابقة أولا وباطنا بالنسبة إلى المرتبة التالية التي هي ظاهر وآخر، أما أثناء العروج والصعود يكون الأمر الصاعد هو الآخر والباطن بينما تكون المرتبة العلمية التفصيلية هي الأول والظاهر، فتلك الحلقة الإلهية هي التي اقتضت الحلقات الكونية التي بها يكون الظهور والتفصيل والاستخلاص والعروج.
---------------------
يصف المتكلمون الله سبحانه بالقدم، بل ويعتبر بعضهم هذا الوصف من أخص خصائصه، ولهؤلاء يجب القول بأنه لا يجوز وصفه سبحانه بوصف لم يرد في كتابه وهو في نفس الوقت لا يليق به لأنه يوهم ارتباطه وتقيده بالزمان في حين أنه هو الذي خلق هذا الزمان مع عالمه وقدره؛ فهذا الزمان إنما يدور أو يتقدم بالنسبة إلي ما هو من دونه، أما الله سبحانه فله التقدم على كل شيء، وأقصى ما يمكن أن يدركه الإنسان أن الزمان وجد مع هذا العالم وأن لكل عالم زمانه الذي بدأ معه وارتبطت طبيعته بطبيعته، أما ما هو خارج هذا الكيان العالمي من أية جهة من جهاته الممكنة فلا قبل لإنسان بالإحاطة به أو حتى بالإلمام بشيء عنه، وكل ما يمكن تصوره أنه إذا كان ثمة عالم قبل الانفجار العظيم فلا بد أن طبيعته كانت مغايرة لطبيعة هذا العالم المشهود، ولا بد أنه بدأ أيضا مع زمانه وانتهى زمانه معه، أما الحق سبحانه فله التقدم علي العالمين والإحاطة التامة بهم، فلا يمكن بأية حال من الأحوال تصور أنه كان ثمة عالم قبل هذا العالم له نفس طبيعته وخاضع لنفس النسق من القوانين والسنن.
إن من علم أن الزمان هو أمر من مقدراته ومقتضيات أسمائه وأنه كيان لازم لتفصيل الكمالات لم يحتج إلى وصفه بالقدم ولم يجد حرجاً في أن يسميه بما اصطلحوا على أنه صفات الأفعال كالخالق مثلا ولم يقل إنه لا يجوز أن يوصف بها أزلا حتى لا يؤدى ذلك إلي القول بقدم المخلوق مثلا، فإنه سبحانه فوق كل تلك الإلزامات وتقدمه علي كل ما هو دونه هو تقدم ذاتي مطلق مفصل بسائر التقدمات الأخرى، ولقد خلط المتكلمون بين اتسامه الذاتي بسمة من لوازم حقيقته وبين مجال تلك السمة والذي هو من لوازم إظهارها وليس من لوازم وجودها، فاتسامه سبحانه بسمة ما هو أمر ذاتي فلا تتغير تلك السمة عما هي عليه، أما مجال تلك السمة فلابد من تغيره وتطوره واتساعه بطريقة لانهائية، وذلك من مقتضيات تلك السمة؛ فللسمة الإلهية الكمال المطلق واللاتناهى، والسمة التي هي كذلك لها الإحاطة بكل مجالاتها مهما تطورت هذه المجالات واتسعت دون أن تتغير –أي السمة- عما هي عليه.

وتدبر هذا الاسم يتيح للإنسان فقه كثير من الأمور مثل سرّ القدر والاصطفاء والزمان والمكان والحلقات الكونية التي لا تتناهى فهو المفتاح لكشف أسرار الوجود .

وطبقاً لقواعد استخراج الأسماء فإن الأسماء الأول والآخر والظاهر والباطن التي هي تفاصيل تلك الحلقة الإلهية هي من نسق الأسماء الحسني المفردة.

الأول
له الأولية المطلقة بمعنى التقدم الذاتي والتفوق والعلو المطلق على كل ما هو سواه، وله الأولية من حيث أن كل كمال إنما بدأ منه وصدرت آثاره عنه وكان بدء ظهوره وتفصيله منه، كذلك فكل الحلقات الكونية إنما تستمد بداياتها منه، وهذا يعنى إحاطته الكلية بالأمور الزمانية فهي لا تحكم عليه، فالزمان إنما نشأ أيضا عنه وله التصرف التام فيه، واتصافه بالأولية مع الآخرية يعالج ما أسماه المناطقة بالدور المنطقي فلابد من ابتداء كل السلاسل منه وانتهائها إليه، وكذلك لابد من عروج كل أمر إليه.
ولله سبحانه الأولية المطلقة بمعنى أن كل ما هو دونه إنما يتلوه ويترتب عليه وهو من لوازمه المعنوية أو الوجودية، فله سبحانه التقدم على كل ما هو من دونه.
ولأنه الأول فلابد لكل أمر أو واقعة من تأويل ولابد ألا يعلم التأويل النهائي إلا هو وأن يكون هو أصل كل تأويل، فللأول كل أمر سابق.

الآخــر
هو الآخر من حيث رجوع كل أمر وانتهائه إليه وكذلك لكونه غاية كل الحلقات الكونية ومن حيث إحاطته التامة بالزمان بكافة صوره وتجلياته الممكنة، فكونه الأول والآخر هو أمر واحد لا تقابل فيه وإنما يعنى إحاطته التامة بكل الحلقات والدورات والأزمنة.
إن رجوع كل شيء إليه لا يعنى أبدا أنه خرج من عنده إذ أن كل شيء في قبضته وهو الآخذ بناصيته أو هو ماثل بين يديه ولكنه يعنى أنه مرجع كل شيء كما يعنى أن حركة الأشياء إنما تكون من حكم اسم إلى حكم اسم آخر أو أن تفصيل الكمالات اقتضى فواصل نسبية تعينت فيما يسمى بالدورات أو الحلقات الكونية، فالحركة الذاتية والخارجية للأشياء كانت من مقتضيات الحلقات الإلهية ومن لوازم تفصيل الكمالات الإلهية.
ولله سبحانه من حيث هذا الاسم الآخرية المطلقة فهو مرجع كل أمر ومكان ووارث كل شيء وإليه يصعد الكلم الطيب وإليه المرجع والمصير وله الكلمات الفاصلة.

الظــاهر
إن ظهوره ليس كذلك الظهور المألوف والذي يدركه الإنسان بحواسه الظاهرة والباطنة بل هو الظهور المتسق مع ما هو له من السمات الأخرى، فظهوره هذا لا يتناقض مع بطونه، لذلك فهو الظاهر في عين بطونه، وهذا الظهور لا يعنى أنه عين وجود الأشياء ولا عين صورها ولا أنه الظاهر بأحكامها أو المحتجب بنقصها إذ هو أجلّ من ذلك مع إحاطته التامة بكل ذلك، وإنما يعني أن كل ما ظهر إنما يشير إلي شأن من شؤونه وكمال من كمالاته وفعل من أفعاله، فما من أثر كوني إلا وهو من مقتضيات أمر أو شأن إلهي، وما من صفة حسن أو كمال إلا وهي من تفاصيل الحسن الإلهي.
وظهوره يعني أيضاً أن له الغلبة المطلقة علي كل ما هو من دونه وأن له عليهم الكلمة العليا.
والرمز إشارة إلي كونه عظيماً في ذاته وإلي أنه لا ضد له وأن الظهور من لوازمه ومقتضياته وأن هذا الظهور هو رحمة خالصة ولا حد لها لكل الكائنات وأن الظهور هو أمر متتابع ومستمر هو وما ترتب عليه من الرحمة.

الباطــــن
هو الباطن المطلق من حيث أن له الغيب المطلق، وهو الباطن من حيث الكنه والهوية ومن حيث أن كل كمال ظهر من كمالاته إنما يستند إلى كمال باطن لا سبيل إلى ظهوره ولا سبيل لمخلوق للاطلاع عليه ولا طاقة له بذلك، وكونه سبحانه هو الباطن يعنى أنه ليس ثمة حقيقة ذاتية في كيان أي مخلوق من مخلوقاته يسمح له بمعرفته على ما هو عليه.
وكل كمال ظهر إنما هو منه وإليه، إذ هو يكشف شيئا عنه ويجعل الإنسان أقرب إليه ويبقى هو الباطن المطلق، ذلك لأنه ليس لدى الإنسان من حاسة يستطيع أن يدركه بها على ما هو عليه، فهو لا يدرك إلا ما أظهره، وما يظهره إنما يكون بما يخلق أو يقتضى أو يقدر، أي هو في عالمي الخلق والأمر، فلا سبيل لمخلوق إلى إدراكه من حيث هو الباطن المطلق، وبطونه المطلق ليس صفة لكنه ذاته فقط وإنما هو لكل أسمائه وصفاته؛ فلا يمكن أن يدركها إنسان علي ما هي عليه.
والرمز إشارة إلي أن البطون هو بداية كل أمر وإلي أن البطون المطلق الذي هو للحق هو عين العلو المطلق وأنه لذلك يرجى ويخشى، وهو إشارة أيضاً إلي أن أصل كل خير وحسن ونور هو هنالك في الذات التي لها البطون المطلق.
ولأنه الباطن المطلق فهو البعيد المتعالي، فلا سبيل لمخلوق حادث إلى حضرات ومراتب بطونه.

المراجع (من كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد):
1- الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2- الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار، 2002.
3- الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار، 2003.
4- المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.
5- المقصد الديني الأول، 2006.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق