الاثنين، 1 يونيو 2009

السبع المثاني

السبع المثاني

أولاً: مقــدمـة
لقد نص الكتاب العزيز علي أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوتي سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السّمَـوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَإِنّ السّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلَّــقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَد ءاتَيْنَـكَ سَبْعاً مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ } (الحجر : 85 – 87)، والمثنى –وفقاً للنظرية المقدمة في كتب المؤلف- هو اسم من الأسماء الحسنى يعبر عن سمة واحدة لا يمكن التعبير عنها إلا بكلمتين (لفظين أو مفردتين) متلاصقتين من كلمات (مفردات) اللغة العربية، ويلتمس معناه ودلالاته ووظائفه من الآيات القرآنية التي ورد فيها بصفة خاصة ومن القرآن كله بصفة عامة، ولقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه آتاه سبعاً من المثاني في الآية رقم 87، وصرح له قبلها مباشرة في الآية رقم 86 بقوله: {إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَـلَّـقُ الْعَلِيمُ}، وهذا بيان بأن المثنى (الخلاق العليم) هو واحد من المثاني التي أوتيها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوضح الحرف (من) أن المثاني أكثر من ذلك عدداً .

ثانياً: أسس استخراج المثاني
ولكن كيف يمكن الاستدلال على باقي المثاني التي أوتيها الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ لقد احتوت نفس السورة على آية أخرى تقول : { وَإِنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } (الحجر : 25)، فتلك الآية تتضمَّن إذاً مثنى آخر هو (الحكيم العليم)، ومن تدبُّر الآيتين معاً يمكن استنباط أسس استخراج المثاني من آيات القرآن العظيم، وهي:

1 – أن تحتوي الآية على مثنى يكون مكوناً من لفظين كما سبق القول.
2 – أن تحتوى الآية على كلمة (ربك).
3 – أن يكون المثنى خبراً لجملة اسمية مبتدؤها كلمة (ربك) أو ضمير يعود عليها.
4 – أن تتضمَّن الآية تأكيداً بحرف (إن) لكلمة (ربك) أو للضمير العائد عليها أو لكليهما معاً.

ولقد وجد بناء على تلك القواعد أن المثاني التي أوتيها الرسول صلى الله عليه وسلم هُنَّ سبعٌ بالفعل، تلك المثاني هي: الحكيم العليم والسميع العليم والعزيز العليم والخلاق العليم والعزيز الرحيم والقوي العزيز والغفور الرحيم، والآيات التي تحتوي على السبع المثاني مذكورة في البند الثالث.

ثالثاً- الآيات المحتوية على السبع المثاني

لقد وجد بناء على تلك القواعد أن الآيات التي تحتوي على السبع المثاني هي :
1 – { وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىَ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }( الأنعام: 83)،
{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } ( الأنعام: 128)، { وَإِنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ( الحجر : 25 ).
2 - { إِن رَبّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } ( النمل : 78 ) .
3 - { وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ } ( الشعراء : 9 ، 86 ، 104 ، 122 ، 140 ، 159 ، 175 ، 191 ).
4 - { إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ } ( الحجرات: 86 ).
5 - { فَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجّيْنَا صَالِحاً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ } ( هود: 66 ).
6 - { رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } ( الدخان: 6 ).
7 – وتوجد 6 آيات ورد فيها المثنى الغفور الرحيم هي: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنعام145، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنعام165، {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأعراف153، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأعراف167، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل110، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}النحل119.

وإيتاء المثانى السبعة للرسول r اقتضى إيتاءه الفاتحة والقرآن العظيم وإنزال القرآن عليه وإرساله به، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6)} (النمل)، {حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3)فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4)أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(5)رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(6)} (الدخان)، {يس(1)وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2)إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(3)عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4)تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5)} (يس)، {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(6)} (الفرقان)، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)} (غافر)، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(86)وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87)} (الحجر)، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(25)} (الحديد).

رابعاً: معنى إيتاء المثاني

إن معني إيتاء إنسانٍ ما مثنى من المثاني أن يتضمن أصل استعداده وكيانه الجوهري كل ما يلزم ليتلقى مدداً إضافياً من حيث تلك المثاني وبحيث تعمل أنساق القوانين والسنن والملائكة والجنود الخاصة بها لصالحه ولتحقيق مقاصده، فالإيتاء أشد ثباتاً وأقوى من الإعطاء، فالإيتاء يترتب عليه أمر يكون مركوزاً في الماهية أي أنه لابد من أن تكون السمات التي يشير إليها المثني من السمات التي تفصَّل إليها الماهية حال تحققها، ويترتب علي ذلك استعداد ذاتي لقبول آثار المثنى والظهور وفقاً لمقتضياته، فبرسوخ السمة التي يعبر عنها المثنى في الماهية تقتضي القوانين والسنن أن يعامل وفقاً لها؛ ويترتب عليه استعداد ذاتي لقبول آثار المثنى والظهور وفقاً لمقتضياته، فبرسوخ السمة التي يعبر عنها المثنى في الماهية تقتضي القوانين والسنن أن يعامل به، فتكون أفعاله وأقواله وتدبيراته وكل ما ظهر منه وصدر عنه وكل ما عومل به وآل إليه أمره مصداقاً لذلك المثنى ومجالاً لتجلياته.
وعلى سبيل المثال فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوتي المثنى (القويّ العزيز)، وهذا يعني أن السمة المحكمة الواحدة المعبر عنها بالقوة والعزَّة من لوازم ماهيته وتفاصيلها، ولكن ما هي مقتضيات تلك السمة وآثارها؟ إن ذلك يُعرف من الآيات التي وردت فيها مثل:
{ كَتَبَ اللّهُ لأغْلِبَنّ أَنَاْ وَرُسُلِيَ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ } ( المجادلة : 21 )، { فَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجّيْنَا صَالِحاً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ } ( هود : 66 ).
لذلك كان لابد لمن له هذا المثنى من الظهور التام على كل من عاداه، وكان لابد من أن يبوء من ناصبه العداء بالخزي والخسران وأن ينجو كل من اتبعه، وهكذا انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان انتصاره انتصاراً تاماً باهراً لم يشهد التاريخ له مثيلاً في آثاره الثابتة الدائمة.
ولقد أوتي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المثنى (الحكيم العليم)، وقد قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىَ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}(الأنعام: 83)، فإيتاؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المثنى اقتضى أن يكون مُهيَّئاً لتلقِّي القرآن، لذلك استحقَّ هو وحده أن يتلقى القرآن العظيم وجوامع الكلم والحجَّة البالغة والحكمة الباهرة، واقتضى ذلك أن يجل ويوقر القوانين والسنن المألوفة وتلك هي سنَّته، وأن يكون محلّ نظره الأمور الكلِّيَة والمقاصِدُ العُظْمى، وألاَّ يبدي ما لديه من إمكانات ومقامات إلا بقدر ما تقتضي الحكمة وُتحَتِّم الأحوال، وأن يكون له المقام المحمود يوم القيامة، كما اقتضى هذا المثنى أن يعامل كل إنسان وفق ما لديه من استعداد ولذا اختلفت إجاباته علي نفس السؤال باختلاف السائلين، والقول بأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوتى المثنى الحكيم العليم يقتضى تقدم حكمته على علمه، وفى الآية التالية ما يؤكد ذلك: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113)، فجاءت الحكمة قبل العلم كما سبق القول.
فالإيتاء هو إعطاء خاصّ وإلا فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان متَّصفا بكلّ صفات الكمال الممكنة والتي تشير إليها المثانى والأسماء الأخرى، ولقد نصَّ القرآن علي بعضها؛ قال تعالي: { بِالمُؤمِنينَ رَءُوفٌ رحيمٌ } (التوبة: 128)، ويجب العلم بأنّ السمات إنما تُنسب إلى كل ذات كما يليق بتلك الذات؛ فبالنسبة للحقِّ سبحانه فإنَّ سماته واجبة ومن لوازم ماهيته، أمَّا بالنسبة لكل من هم دونه فإنَّ كمالاتهم مستمدَّة منه سبحانه هي وكل أسباب وجودهم، وهي أمور محتملة ممكنة فلا يتحققون بها إلا بقدر سعيهم الدءوب المخلص.
إن المثاني كان لها تأثيرها المباشر على مجريات الوقائع التي صاحبت البعثة النبوية، ولقد رمز الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى آيات السبع المثانى بكثير من الأمور الهامة المتعلقة بحياته لتكون بشرى منه له، ولذلك امتن عليه بها، ولقد وجد بفضل الله تعالي أن لعدد حروف الأجزاء من الآيات المحتوية على جمل كاملة أو الآيات التي وردت فيها المثانى الخاصة به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دلالات في السيرة النبوية، والمقصود بالجزء من الآية هو ما يبدأ بعلامة وقف وينتهي بنهاية الآية ويتضمن المثنى، ويلاحظ أن الحروف يجب أن تُعدّ طبقاً للرسم العثماني، وهذا بيان ببعض النتائج:
1- عدد الحروف طبقاً للرسم العثماني للعبارة القرآنية : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَـكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي } هو ثلاثة وعشرون حرفاً، أي بعدد سنوات البعثة النبوية.
2- عدد حروف عبارة { وَالْقُرءانَ الْعَظِيمَ } التي هي تمام الآية المذكورة هو أربعة عشر حرفاً إشارة إلى عدد الألفاظ الواردة في المثاني السبع.
3- وبالنظر إلي الآية المحتوية على المثنى الآخر ( الحكيم العليم ) في نفس السورة ؛ ( أي سورة الحجر ) التي أقسم فيها الله تعالى بعمر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهي الآية الخامسة والعشرون: { وَإِنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } (الحجر : 25) فقد وجد إن عدد حروفها هو خمسة وعشرون حرفاً أيضاً، وتلك إشارة إلى سن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تزوج السيدة خديجة (رضي الله عنها)، ويلاحظ أن المثنى المذكور هنا هو نفس المثنى المتولي أمر السيدة سارة زوج سيدنا إبراهيم عليه السلام.
4- يلاحظ أيضاً أن سورة الشعراء تضمنت الآيتين: { وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ * وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَـلَمِينَ } (الشعراء : 191 – 192)، وعدد حروف الآيتين أربعون حرفاً إشارة إلى سنه صلى الله عليه وسلم عندما بدأ تنزيل الكتاب من رب العالمين.
5- وبالنظر إلى سورة الدخان المحتوية على آية المثنى السميع العليم وجد أن آياتها الأربعة الأولى تقول: { حَمِ * وَالْكِتَـبِ الْمُبِينِ * إِنّآ أَنزَلْنَـهُ فِي لَيْلَةٍ مّبَـرَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } (الدخان : 1 – 4)، وعدد حروف تلك الآيات طبقاً للرسم القرآني هو ثلاثة وستون حرفاً وهو عمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك إشارة إلى إنه بتمام عمره يتم فرق وتفصيل آيات الكتاب المحكمة.
6- أما الآية التالية القائلة: { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَآ إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } (الدخان : 5) ، فيلاحظ أن عدد حروفها ثلاثة وعشرون حرفاً إشارة إلى عدد سنوات البعثة المحمدية.
7- ويلاحظ أنه بنفس العدد وردت كلمة (ربك) في آيات المثاني المنطبقة عليها الشروط الواردة هنا.

وبالنسبة للعبارات القرآنية الآتية وجد أن عدد الحروف يبين تواريخ الوقائع الهامة محسوبة من بدء الوحي، وهذا يعني أنه للحصول علي التاريخ الهجري لواقعة ما يتم طرح العدد ثلاثة عشر من عدد الحروف الوارد.

8- في الآية التالية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل110، فإن الهاء هي الحرف الثالث عشر في الآية إشارة إلي سنة الهجرة اعتبارا من بدء التنزيل، والمثنى هو الغفور الرحيم أما الجملة الكاملة التي تتضمن المثنى فعدد حروفها واحد وعشرون حرفا وهذه إشارة إلى سنة العودة إلى مكة أى فتحها والذي تم في السنة الثامنة للهجرة.
9- في الجملة القرآنية: {إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} ( الأنعام: 128 ) عدد حروف الجملة ثلاثة عشر حرفا وهو يشير إلي عدد سنوات الفترة المكية ويلاحظ أن هذا المثني لم يرد إلا في السور المكية.
10- في العبارة القرآنية التي وردت في سياق الآيات التي تتضمن المثني (العزيز الرحيم) :{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ-بِنَصْرِ اللَّهِ }الروم عدد الحروف ستة وعشرون حرفا وهو يشير إلي عام أول نصر كبير للمسلمين علي الروم والذي تم في السنة الثالثة عشر للهجرة.
11- في العبارة القرآنية: {إِنّ رَبّكَ هُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ} ( هود: 66 ) عدد حروف الجملة ثمانية عشر حرفا وهو يشير إلي العام الذي رد الله سبحانه فيه الكافرين بغيظهم في غزوة الخندق والذي تم في السنة الخامسة للهجرة وفي ذلك حسم للخلاف حول تاريخ تلك الغزوة، ولقد اختيرت الآية المحتوية علي المثني القوي العزيز لأنه هو الذي تولي دحر أهل الشرك في تلك الغزوة، قال تعالي: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(25)}
12- وكذلك في الآية: {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }الروم5 }، فإن عدد حروف الجملة القرآنية: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} والمحتوية علي مثني النصر العزيز الرحيم هو خمسة عشر حرفاً، وفي ذلك إشارة أيضا إلي عام النصر في غزوة بدر أي إلي السنة الثانية للهجرة.
13- في الآية القرآنية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }الشعراء9، والتي تتضمن مثني النصر العزيز الرحيم فإن عدد حروفها واحد وعشرون حرفا وهذه إشارة إلى سنة العودة إلى مكة أي فتحها والذي تم في السنة الثامنة للهجرة.
ويلاحظ أنه يجب في كل ما سبق أن تعدَّ الحروف طبقاً للرسم القرآني.

خامساً: السبع المثاني ومقتضياتها

كما سبق القول فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم قد أوتي سبعاً من المثاني هي : الحكيم العليم والسميع العليم والعزيز العليم والخلاق العليم والعزيز الرحيم والقوي العزيز والغفور الرحيم، وقد سبق بيان بعض مقتضيات إيتائه صلى الله عليه وسلم المثني الحكيم العليم والمثنى القوي العزيز، وسيتم تقديمها هنا باختصار، ثم يتم شرح باقي المثاني وبيان مقتضياتها .
فإيتاؤه صلى الله عليه وسلم المثنى (الحكيم العليم) اقتضى أن يكون مُهيَّئاً لتلقِّي القرآن، ولذا استحقَّ هو وحده أن يؤتى القرآن العظيم وأن يؤتى جوامع الكلم والحجَّة البالغة والحكمة الباهرة وأن يوقر القوانين والسنن المألوفة وتلك هي سنَّته، وأن يكون محلّ نظره الأمور الكلِّيَة والمقاصِدُ العُظْمى، وألاَّ يبدي ما لديه من إمكانات ومقامات إلا بقدر ما تقتضي الحكمة وُتحَتِّم الظروف، وأن يكون له المقام المحمود يوم القيامة، كما اقتضى هذا المثنى أن يعامل كل إنسان وفق ما لديه من استعداد ولذا اختلفت إجاباته علي نفس السؤال باختلاف السائلين، ولذلك أيضاً تلقى القرآن محكماً ثم بدأ تفصيله شيئاً فشيئا.
ولقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم المثنى (السميع العليم)، قال تعالى: {رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الدخان: 6)، فإيتاؤه المثنى (السميع العليم) يعني أن إرساله كان رحمة للعاملين وأن به تمت كلمة الله تعالى صدقاً وعدلاً واكتمل الدين وختمت النبوة وتم استخلاف الإنسان في الأرض، كما اقتضى إيتاؤه المثنى أن يكون عين سماعه القول عين إدراكه كل دلالاته ومعانيه ومقاصده، وأن يتفوق على الناس بسمو ملكاته القلبية وبإبدائه دائماً الاستجابة المناسبة وأن يكون مربِّياً مزكِّياً للنفوس، وأن يقاتل المشركين وأن يهزمهم وأن يجنح للسلم، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدال بالتي هي أحسن، وألا يكره أحداً في أمر الدين، كما يعني أن تحتوي رسالته على تشريعات شاملة، وأن تكون رسالته عامة، وأن تكون كل شؤونه كلية.
ولقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم المثنى (الغفور الرحيم)، قال تعالى: {وَالّذِينَ عَمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ} (الأعراف: 153)، وهذا يقتضي أن تكون مدة بعثته حافلة بالوقائع والأحداث والجهاد ضد المشركين وضد المنحرفين من أهل الكتاب، ويقتضي أن يستغفر للمؤمنين، ويقتضي أيضاً أن تحتوي رسالته على تشريعات شاملة متعلِّقة بالعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن يكون الالتزام بكل تلك الشرائع هو السبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى، وأن يغلِّب جانب الصفح والإغضاء على المؤاخذة.

العزيز الرحيم
إن إيتاء كائنٍ ما مثني من المثاني يقتضي أن يكون هذا الكائن مظهرا تاماً من مظاهره، ولقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم المثني العزيز الرحيم، قال تعالى: {وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ} (الشعراء: 9)، وهذا المثنى من أخصِّ المثاني وألزمها بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخصّها به، ولذلك تكرر تسع مرات في السورة التي كانت من مقتضيات إظهار حنان الله تعالى وحبه لرسوله صلى الله عليه وسلم وهي سورة الشعراء، وهذا المثني من أسماء منظومة النصر فلابد من انتصار من كان له، فمن مظاهر هذا المثنى إذاً هلاك من عاند الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر به ونجاة وانتصار من اتبعه وآمن به.
والرسول صلى الله عليه وسلم من مظاهر الاسم العزيز الرحيم قال تعالى: {يَس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ}، ويلاحظ أن الآية تنطبق على القرآن الحكيم كما تنطبق على الرسول الكريم، فالاسم العزيز الرحيم من أسماء تنزيل القرآن، كما أنه بالرسول صلى الله عليه وسلم ظهر المعنى الذي يشير إليه ذلك المثنى فمن أراد مثلاً حيَّـاً ظاهراً للسمة التي يشير إليها العزيز الرحيم فلينظر إلى رسولنا الكريم، فلقد كان تنزيله هو عين إرساله رحمةً خالصةً للمؤمنين ورحمة عامة للعالمين، فمن اتَّبعه فاز بالرحمة الخالصة وكان من المنادين بقوله {سلامٌ قولاً مِن ربٍّ رحيمٍ}، أما من كفروا به ممن حقَّ القول عليهم فلهم العذاب والخزي العظيم .
ولما كان هذا المثنى من أسماء التنزيل أي تفصيل الأمر المجمل، كانت حقائق الأنبياء والمرسلين وكل عباد الله الصالحين من تفاصيل كمال الحقيقة المحمدية ومن مظاهرها، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المظهر الأعظم للمثني العزيز الرحيم ومن تنزلاته، قال تعالى: {يَس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}، وذلك لا يعني أبداً تأليهاً له فهو العبد المخلص لله تعالى، بل يعني كما سبق القول أن السمة الإلهية لا سبيل إلى إدراك كنهها أو الإحاطة بها، وإنما يدرك شيء من مقتضياتها ومظاهرها وآثارها، فلولا تلك المظاهر لما كان ثمة سبيل للتعرف عليها أصلاً، ولما أمكن لمخلوق معرفة شيء عن كمالات ربه، وبالتالي لما أمكن لمخلوق أن يعبده، ولذا فما من مخلوق إلا وهو مظهر من مظاهر سمات الله تعالى لأن تلك السمات هي التي اقتضت وجوده وما ترتب عليه من كمالات أصلاً، فكل مخلوق هو مظهر من مظاهر السمة الإلهية والاسم الذي يشير إليها والذي هو علم عليها، أما عباد الله المخلصون فهم مظاهر بيِّنة للأسماء العظمى والحسنى، ولذا فهُمْ أفضل من يهدون الناس إلى الصراط المستقيم والذي يقود الناس إلى المعرفة الحقة بربهم الكريم.
لكل ما سبق فإن من لوازم إيتائه صلى الله عليه وسلم هذا المثنى أن كان الأنبياء والمرسلون وكل عباد الله الصالحين من تفاصيل كماله ومظاهره.
ولقد بين الله تعالى في سورة الشعراء لرسوله صلى الله عليه وسلم أن السنن اقتضت دائماً ألاّ يؤمن أكثر الناس وأن الرسل السابقين قد عانوا من عناد الكفار ولكن كانت لهم الغلبة دائماً في النهاية، ولذا جاءت الآيتان : { إنَّ في ذَلكَ لآيةً وما كانَ أَكْثَرُهُم مُؤمِنين * وإنَّ ربَّكَ لَهُوَ العَزيزُ الرَّحيمُ } ختاماً للآيات التي تسرد قصة كل نبي مع قومه، وذلك يبين كيف كان هلاك من كذَّب ونجاة من آمن آية من آيات العزيز الرحيم، ذلك لأن التعامل مع الناس الذين اقتضت السنن أن يضل أكثرهم ويؤمن القليل منهم عندما يتلقون الرسالة يقتضي أن يكون الاسم المتولي أمورهم مشيراً إلى سمة واحدة تفصيلها العزة المقترنة بالرحمة، فالذين كفروا يعاملون بالعزة والجبروت والسطوة، والذين آمنوا يعاملون بالرحمة الخالصة الخاصة، أما لماذا قال تعالى بعد سرد كل قصة (وإنَّ ربَّك لهُو العزيزُ الرحيمُ) ولم يقل مثلاً وإن الله لهو العزيز الرحيم، فذلك لبيان أن ذلك المثنى من المثاني التي أوتيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم الجامع لفضائل ومكارم وأخلاق وعلوم وكمالات الأنبياء السابقين، فهم جميعاً من تفاصيل كماله ومن مظاهره.
ويلاحظ أنه بعد الحديث عن قومه صلى الله عليه وسلم في أول السورة قال تعالى: { أولمْ يَروْا إلى الأرْضِ كَمْ أَنْبتْنَا فِيها مِن كلِّ زوْجٍ كَريمٍ }، ثم ختم الحديث عن قومه بالآيتين المذكورتين، ولذا فقد اعتبرت تلك السنة الكونية المألوفة آية مكافئة لهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين والذي كان يتم دائماً بمعجزة كبرى كشقِّ البحر لموسى عليه السلام وإطباقه على فرعون وجيشه، أما كان ذلك كافياً لحث المؤمنين على الاهتمام بالسنن الكونية والبحث فيها وتفهُّمها؟
كذلك يلاحظ أنه لم تختتم قصة إبراهيم عليه السلام بهذا المثنى وإنما انتقلت الآيات لتعالج أمور الدار الآخرة، ثم ختمت بالآيتين المذكورتين، واعتبر ذكر الدار الآخرة وما فيها آية للرسول صلى الله عليه وسلم إذ لم يأت رسول من قبل بمثل هذا التفصيل والبيان والعرض الحيّ لوقائع اليوم العظيم .
ولما كان هذا المثنى من أخصِّ المثاني بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلقد أُمر بأن يكل أُموره إليه، فهو الذي يتولاه مذ كان حقيقة علوية ونوراً حيَّاً، ولقد كان يتولاه أثناء بعثته وأثناء قيامه بأعباء رسالته، وهو الآن يتولاه أثناء قيامه بواجبات الشهادة على الأمم وعلى شهداء الأمم.
فمن مظاهر هذا المثنى إذاً هلاك من عانده وكفر به ونجاة من اتبعه وآمن به .
ويلاحَظ أن آيات مقدمة سورة ( يس ) حتى الآية الحادية عشر تشرح مقتضيات الاسم العزيز الرحيم، وهذا الاسم من الأسماء الناصرة للمؤمنين سواء في تلك الدار أو في الدار الآخرة ، قال تعالى :
{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ } ( الروم : 4 – 5 )، وقال: { إِنّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاّ مَن رّحِمَ اللّهُ إِنّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ } ( الدخان : 40 – 42 ).
ولذا فليتشبث بهذا الاسم من أراد النصر في الدارين، ولما كان هذا المثنى ضامناً لنصر المؤمنين ، كان هو المثنى المتولي أمور المرسلين ولذا كان لهم النصر المبين، وخاصة في يوم الدين.

العزيز العليم
ذلك الاسم يشير إلى السمة التي تفصيلها العزة المقترنة بالعلم فإليه يستند تقدير الأمور الكونية الكبرى، قال تعالى : { فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَـوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (فصِّلت : 12)، {وَالشّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يس : 38)، { فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }، (الأنعام: 96)، فالتقدير أو الخلق في الآيات السابقة هو التصميم (To Design) الذي يقوم به على المستوى البشري المهندسون، وهو يتطلب العزة المقترنة بالعلم لأن خلق الأمور المذكورة أكبر من خلق الناس، قال تعالى:{ لَخَلْقُ السّمَـوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ } ( غافر : 57 )
وهذا التقدير يستلزم الإدراك التام والحساب الدقيق لمسارات الأجرام السماوية التي تشملها السماء الدنيا، وهو يستلزم أن يوحي في كل سماء أمرها الخاص بها، أي القوانين والسنن المتعلقة بكل ما فيها، وبكيفية نزول الأمر منها وعروجه إليها وفيها وبكيفية تلقي ملائكة كل سماء لأوامر العليّ الكبير .
فهذا الاسم يقتضي تقدير وصياغة القوانين والآيات الكونية الكبرى وترتيب الأمور في هذا العالم، وكما يتولى هذا الاسم صياغة آيات الكتاب المنظور فإنه يتولى ذلك الأمر بالنسبة للكتاب المقروء، فهو من أسماء تنزيل الكتاب وبه تنزل الآيات من مقام العزة إلى مقام العلم، فتصبح بذلك أكثر تفصيلاً، وبذلك تكون ملائمة لإدراك الإنسان يدرك منها كل إنسان بقدر وسعه، ومن حيث ذلك الاسم يقضي الله تعالى في الأمور الكبرى كالنزاعات بين الطوائف والنحل المتعلقة بالأمور الدينية .
وهذا الاسم من المثاني التي أوتيها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِن رَبّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (النمل: 78)، وهو الذي اقتضى بالنسبة إليه أن ينزل عليه الكتاب، وأن يحث الناس على احترام القوانين والآيات والسنن وتدبرها والتفكر فيها، وأن يحيط علماً بأمور السماوات العلى وكيفية نزول الأمر وعروجه فيها، ولذا كان له عروج إليها كلما تطلب الأمر ذلك، وذلك العروج أسمى من الانتقال المكاني المعلوم، واقتضى ذلك المثنى أيضاً أن يلي أمر قومه، وأن يتضمن دينه تشريعاً، وأن يقضي فيما بينهم بأمر ربه، ولما كانت مقتضيات هذا الاسم هي الأمور الكلية الكبرى فقد ظهر ذلك في احتفاله بالأمور والمقاصد العظمى، وكذلك في اعتماده الشورى كوسيلة للوصول إلى الحلول المثلى للأمور التفصيلية المتعلقة بالأحداث الجارية والوقائع اليومية والأمور المعاشية.

القوي العزيـز
إن السمة الواحدة التي تفصيلها العزة المقترنة بالقوة وفيها ما يفوقهما معاً تشير إلى العظمة اللانهائية لقدْره سبحانه، واستحالة أن يدرك أحد مدى عظمة وعزة هذا القدر وبالتالي استحالة أن يقدره أحد حق قدره، وهذا ما يجعل العبد مذنباً وإن أطاع وأحسن، قال تعالى: { مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ } ( الحج : 74 ).
ومن مقتضيات تلك السمة أن له الغلبة على أمره هو ومن ارتضى من رسله، فانتصار الرسل من السنن الكونية التي هي من مقتضيات هذا الاسم، قال تعالى: { كَتَبَ اللّهُ لأغْلِبَنّ أَنَاْ وَرُسُلِيَ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ } (المجادلة : 21)، فلابد من انتصار الرسول ومن آمن به واتبعه، ولابد من هلاك من كفر به وناصبه العداء وشاقّه، ولقد كان ذلك يتم قبل ختم النبوة بآية كونية، فلما جاء الرسول الخاتم أُمِر بأن يجاهد وبأن يقاتل من كفر من قومه حتى يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وكان ذلك من لوازم ختم النبوة وتمام كلمة الله تعالي وتمام استخلاف الإنسان في الأرض.
ومن السنن الكونية التي اقتضاها هذا الاسم أيضاً انتصار من نصر الله تعالى، قال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ } ( الحج : 40 )، وهو سبحانه ليس بحاجة إلى من ينصره، ولكنه يريد أن يبيِّن سننه للناس فإذا كان هو قد آلي على نفسه أن يلتزم بقوانينه وسننه وأن يلتزم بكل كلمة سبقت منه أو كتبها على نفسه، فعباده أولى بذلك، ذلك لأنه سبحانه يمكنه أن يخسف الأرض بكل من كفر به وعاداه أو أشرك به ما لم ينزل به سلطاناً، ومع ذلك فإنه لا يفعل والتزم بما سبقت به كلمته من استخلاف الإنسان وتحميله الأمانة والاختيار وإرجاء الفصل في الأمر إلى اليوم المعلوم، وهكذا فإن الصراخ في المساجد وشق الحناجر بالدعاء على أعداء الدين لن يجدي نفعاً إذا لم يقترن بسعي حثيث وعمل دءوب وفق القوانين والسنن لإحراز النصر، ذلك لأن الله سبحانه لن يخرق سننه من أجل أحد وما اتخذ صاحبة ولا ولداً ولا أبناء يحابيهم على حساب الآخرين، ولقد أشار الله تعالى في القرآن إلى أنه إذا أراد أن ينصر المستضعفين الذين يستغيثون به فإنه يستخدم آلاته وأدواته من عبادٍ صالحين لإنفاذ مراده، وهو لا يجبرهم على ذلك، وإنما يحثهم عليه ويحرِّضهم، فمن كان لديه الاستعداد فإنه يسارع بالإجابة، قال تعالى: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لّنَا مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً وَجْعَلْ لّنَا مِن لّدُنْكَ نَصِيراً } (النساء : 75)‏
وإلى هذا الاسم تستند الوقائع والأحداث المتعلقة بالمواجهات بين الرسل واتباعهم الذين يجاهدون لإعلاء كلمة الحق وبين أهل الكفر والضلال والشرك، فهو الذي اقتضى السنن التي يتم بها تدبير تلك الأمور ودفع الناس بعضهم ببعض.
وإلى هذا الاسم يستند إنزال الحديد أي جعله في متناول الإنسان وفقاً لقوانين وسنن يمكن التعرف عليها ونقلها والاستفادة منها، ذلك لأن كل معدن –كسائر الأشياء- يستند في خلقه وإيجاده وإنزاله إلي اسم من الأسماء الحسني.
وإلى هذا الاسم يستند تشريع القتال لكفِّ بأس الظالمين والذين كفروا، وكذلك إرسال الرسل بالكتاب والميزان .
وتلك السمة الواحدة؛ العزة المقترنة بالقوة؛ لازمة لإيصال الرزق إلى ما لا يتناهى عدده وتتنوع طلباته من الكائنات، فبالقوة يتمكن من ذلك وله العزة على من يتلقون الرزق.

ولقد أوتي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المثنى (الْقَوِي الْعَزِيز)، ولذلك وجه الله تعالى له الخطاب بعد أن قصَّ عليه قصة صالح عليه السلام مع قومه قائلاً: { فَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجّيْنَا صَالِحاً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ } (هود : 66 )، ولذا امتنع على الخلق إدراك قدرة العظيم وكان له القدر الأعظم عند ربه وعلى كل العاملين، وانتصر انتصاراً مؤزراً على كل من عاداه، واقتضى ذلك أن يحمل السيف وأن يقاتل المشركين وأهل الضلال.
واقتضت عظمة قدره صلى الله عليه وسلم أن يكون له من ربه النصيب الأوفى من الأرزاق الحقيقية وهي الأرزاق المعنوية من خلق عظيم وعلم وحكمة وبلاغة وأحوال عليِّة ومقامات سنية، واقتضى كل ذلك أن يتميز منه غيظاً كل الأشقياء كالكافرين والمنافقين والمفسدين وأهل الضلال دون أن ينالوا منه.

الخلاق العليـم
قال تعالى: { إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ } ( الحجر : 86 )، وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخََلاقُ الْعَلِيمُ }يس81.
فالخلاق العليم هو مثنى يشير إلى سمة واحدة تفصيلها الخلق المتتابع المتكرر المقترن بالعلم التفصيلي الشامل، فذلك المثنى هو الذي اقتضى خلق السماوات والأرض، وهو الذي اقتضى حتمية قيام الساعة، وإليه يستند كل تقدير في هذا اليوم، ولذا فهو القادر على أن يخلق مثل ما خلق من سماوات وأرض، ذلك لأن سماته التي تعبر عنها أسماؤه الحسنى من اللوازم الذاتية لماهيته، فكل سماته اللازمة له لا تنفك عنه ولا تتطلب مدداً خارجياً حتى يظل محتفظاً بها.
ولقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم المثنى (الْخَلاّق الْعَلِيم)، قال تعالى: {إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ} (الحجرات: 86)، وهذا يعني أنه أعطى الاستعداد لتقبل آثاره والقيام بمقتضياته، وليكون مظهراً له، ذلك لأنه بتزكِّيه وتطهُّره التام عما لدى البشر من أهواء ومقتضيات ذاتية صار الحكم فيه خالصاً لله الواحد القهار، ولذا فإنه صار آلة إلهية إليها تستند الأحداث والوقائع اليومية، وكذلك أوكل إليه بعض التشريعات الجزئية التي تتطلب لإتمامها ذوقاً بشرياً، ولقد أوتي من القوى ما يقتضيه هذا المثنى، ولكنه قياماً بحق مقامه الأسمى وكذلك وفقاً لمقتضيات المثاني الأخرى لم يكن يستخدم قواه تلك إلا بحكمة، ذلك لأنه كان عين الرحمة، فلم يستخدم قواه تلك ليرى قومه الآيات إلزاماً لهم بالحجة، فلقد كان يعلم أن منهم من لن يؤمن مهما يرى من آية، ولذا فإن أية آية يرونها ستكون عذاباً إضافياً عليهم، ولكنه كان يستخدم قواه تلك إذا شاء لتثبيت أتباعه المخلصين وقضاء حاجاتهم إذا اقتضت الحكمة ذلك، فكان يسقي ويطعم الجمع الغفير من الماء أو الطعام القليل، وشفى الإمام عليا من الرمد عندما تفل في عينه وأعطاه رايته، وحقق أمل المرأة التي طلبت أن تركب البحر مجاهدة في سبيل الله بقوله لها أنت منهم.
وهذا المثنى يظهر فيما كان يستحدثه من أساليب للدعوة إلى الله تعالى واستمالة الناس إلى دين الحق، كذلك فيما يستحدثه من أساليب لتربية أصحابه وتزكية أنفسهم واستغلال التنافس بينهم لصالح الدعوة الإسلامية، ولذا كان نجاحه باهراً فيما كُلِّف به .
ويظهر هذا المثنى أيضا فيما كان يصدر عنه من عبادات، ذلك لأن العبادات مخلوقات، يكون لها من البنيان والروح والحياة بقدر إمكانات من صدرت عنه من تقدير وعلم وإخلاص وعزم ومن شوق وحب، وهو صلى الله عليه وسلم الإمام في كل ذلك، فهو بصلاته مثلاً كان ينشئ بإذن ربه كائناً حياً روحه الإخلاص والإخبات التام لله تعالى، فكانت تصدر عنه كاملة تامة، تسبح بحمد ربها إلى يوم القيامة، وبها يتنعم في الدار الآخرة.
ولا ينبغي أن يظن أحد أن وجود خالقين يعني مشاركة لله تعالى في أمر من أموره، ذلك لأن الخلق -مثله مثل سماتٍ كالحياة والعلم والرحمة وغيرها- يظهر ويُفصَّل ويُعلَم بما لدى مخلوقاته من صفات تشاركها في الاسم وتشبهها في الأثر ولكنها لا تشبهها في أي أمر الآخر ، ولذا قال تعالى : { فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسن الخَالِقين }، كما وصف نفسه بأنه أرحم الراحمين وخير الناصرين وأحكم الحاكمين ... الخ، وهو يتم بمقتضى قوانين الله وسننه والتي من آثارها أن يكون من لوازم الماهية الإنسانية صفة الخلق اللائقة به المقيدة مثله.
والفرق بين اتسام الله تعالى بسمة ما واتصاف من خلق بها أن سمته تعالى من لوازمه الذاتية، فما هو له لا يمكن أن ينفكَّ عنه، فهو ما تلقى سمته من أحد، لأن كل من هم سواه كالعدم بالنسبة إليه، فهم في وجودهم وفيما لديهم من صفات كمال مفتقرون إليه، وفي كل حين مستمدون منه .

فمن تجليات هذا الاسم مثلاً ما يقوم به المهندسون من تصميم المباني والآلات عن علم تفصيلي شامل وقدرة على إعادة التصميم طبقاً لنفس المتطلبات والغايات، ولكن المهندس محتاج لمن يتلقى عنه هذا العلم ومحتاج إلى متابعة التطورات في مجال عمله، أما الحق سبحانه فالسمات اللازمة له كما سبق القول هي أمر ذاتي له.
ولقد كان من مظاهر هذا المثنى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الصفح الجميل الذي كان يقابل به أعداءه والمسيئين إليه، وقد كان الظهور الأعظم لذلك موقفه من أهل مكة من بعد أن أظهره الله عليهم ومكنه منهم، وكذلك موقفه من الأعراب وبعض أهل المدينة ممن مردوا على النفاق وكان لا رزق لهم إلا الكيد له ومحاولة النيل منه، كذلك كان من مظاهر هذا المثنى في بعثته أنه كان أشد الرسل اعتناء بأمر اليوم الآخر، وكانت رسالته وهي القرآن علماً للساعة وأعظم الرسالات تفصيلاً لأحداثها ووقائعها، كما كان من مظاهر هذا المثنى في بعثته أنه كان أشد الرسل اهتماماً بالسنن والقوانين المألوفة والآيات الظاهرة في السماوات والأرض .

المثاني الخاصة ببعض عباد الله المخلصين
يلاحظ أيضاً أن القرآن العظيم قد صرح بمثانٍ أخرى خاصة ببعض عباد الله المخلصين، تفسر أيضاً أمور حياتهم ، وتشرح كثيراً من طباعهم الذاتية وتبين أعمالهم، وها هي بعض الأمثلة:

المثنى الخاص بآدم عليه السلام
إن المثنى الذي أوتيه آدم عليه السلام هو التواب الرحيم وقد ورد في تلك الآية: { فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ } ( البقرة : 37 ) ، لقد ندم آدم على ما بدر منه من معصية فألهمه الله تعالى أن يقول مع زوجه: { رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ( الأعراف: 23 )، تلك الكلمات هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، وهي اعتراف محض بالذنب وإقرار بأن رحمة الله تعالى ومغفرته هما سببا النجاة، فآدم عصى ربه كما أخبر الحق سبحانه، ولا ينبغي تكذيب ما أخبر الله تعالى به اعتذاراً لآدم عما بدر منه، فإن شرف آدم وعلوّ قدره إنما ظهرا بسبب ذنبه، فهو لم يستكبر كإبليس بل ندم واستغفر وفرّ إلى ربه، فكان ذلك سبباً لاجتبائه وحبه، قال تعالى: { وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ * ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ } ( طه: 121 - 122 )، فبيَّن أن الاجتباء كان بعد المعصية، إذ بعدها أصبح آدم واعياً بالمسئولية الملقاة على عاتقه وبواجبه نحو ربه وبدأ استخلافه في الأرض، إن معصية آدم وتوبته كانتا سبباً في تجلّي المثنى التواب الرحيم، وتولى هذا المثنى المعبر عن التوبة المقترنة بالرحمة أمر آدم وبنيه من بعده ، فكل بني آدم لهم حظهم من تجلي هذا المثنى .

المثاني الخاصة بإبراهيم عليه السلام
قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }البقرة127 * {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة128 * {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }البقرة129.
لذلك فقد أوتي إبراهيم عليه السلام المثاني: العزيز الحكيم والسميع العليم والتواب الرحيم، وبذلك استحق أن يكون إماماً للناس والأب الظاهر المادي لسلسلة من الرسل والأنبياء ولكثير من الأمم وأن يتغلب علي الكافرين ومن ناصبه العداء بسهولة، ولنسق القوانين الذي اقتضاه الاسم العزيز الحكيم العلو والتقدم، ولذلك كان رسله وجنده هم الذين بشروا إبراهيم عليه السلام بغلام عليم، وبتحققه بمقتضيات تلك المثاني اتخذه الله خليلا.

المثنى الخاص بسارة عليها السلام
إن المثنى الذي كان يتولى أمر السيدة سارة هو ( الحكيم العليم ) كما جاء في قوله تعالى على لسان الملائكة لها : { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبّكِ إِنّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } ( الذاريات : 30 )، ويلاحظ أن من يتولى أمره هذا المثنى يكون أشد احتراماً وتمسكاً والتزاماً بالقوانين والسنن المألوفة والتي هي النسق القانوني الأحب إلى الله تعالى، ولذا اختاره لكي يجري عليه أمور العالم الاعتيادية الظاهرة، ولذا فإن من كان له هذا المثنى لا يتصور عادة إمكانية أن يستبدل به نسق آخر من القوانين والسنن ، لذا تعجبت سارة عندما بُشِّرت بأنها ستلد مع أن بعلها شيخ كبير وهي العجوز العقيم.

المثنى الخاص بلوط عليه السلام
إن المثنى الذي كان يتولى أمر لوط عليه السلام هو العزيز الحكيم، قال الله تعالى على لسانه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }العنكبوت26، ولذلك كان بالفعل يأوي إلى ركن شديد، فالمثنى العزيز الحكيم عظيم السطوة بالغ القوة، وهو من أسماء منظومة النصر، ولذلك فمنه يكون النصر، وبه يلوذ المتوكلون وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، ولذلك تغلب لوط الذي كان غريباً في قومه عليهم رغم أنه لم يؤمن به أحد منهم، وقد أيده العزيز الحكيم برسل كرام منه، وكان هلاك قومه وقريتهم آية للعالمين، إذ جعل الرسل عاليها سافلها وأمطروا عليها حجارة من سجين.

المثنى الخاص بسليمان عليه السلام
المثنى الذي كان يتولى أمر سليمان عليه السلام هو الغنيّ الكريم، قال الله تعالى على لسانه: { قَالَ هَـَذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنّمَا يَشْكُرُ ِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ } (النمل: 40)، ولذا فقد طلب من ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده لعلمه أن لديه الاستعداد لقبول ذلك والقيام به، فسخر الله تعالى له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص، وآتاه من الثراء ما بهر ملكة سبأ عندما زارته، وعلَّمه منطق الطير، وآتاه من كل شيء .

المثنى الخاص بشعيب عليه السلام
ذلك المثنى هو الرحيم الودود ، قال الله تعالى على لسانه : { وَاسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوَاْ إِلَيْهِ إِنّ رَبّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } ( هود : 90 )، ولذا كان من أشد المرسلين رحمة بقومه وحرصاً عليهم وتودداً إليهم كما يُظهِر ذلك حوارُه معهم وأسلوبه ومنهجه في الدعوة مقارنة بغيره ، ولذا قال عندما رأى مصارعهم: { يَـقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىَ عَلَىَ قَوْمٍ كَافِرِينَ } ( الأعراف : 93 ) .

المثنى الخاص بيوسف عليه السلام
إن المثنى الذي أوتيه يوسف عليه السلام هو العليم الحكيم، ولقد أدرك يعقوب عليه السلام ذلك وعرَّفه به عندما قصَّ رؤيته عليه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىَ آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمّهَآ عَلَىَ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (يوسف : 6)، وقال الحقُّ سبحانه على لسان يوسف عليه السلام عندما تمت أحداث قصته: {وَقَالَ يَـأَبَتِ هَـَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيَ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَنْ نّزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيَ إِنّ رَبّي لَطِيفٌ لّمَا يَشَآءُ إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف : 100)، وذلك الاسم يعبِّر عن سمة واحدة تفصيلها العلم المقترن بالحكمة مع التقدم والأسبقية للعلم، ولذا من مقتضيات ذلك الاسم إدراك الحكمة في الأمور باستخلاصها من الكثير من التفاصيل ومن مقتضياته أيضاً علم التأويل وهو لا يتعلق بالرؤى المنامية فقط بل بما ظهر من الوقائع والأمور، ومن مقتضياته أيضاً اللطف في التدبير بإخفاء النعمة في عين النقمة واستدراج الناس إلى ما فيه الخير لهم، ويظهر ذلك في قصة يوسف عليه السلام فقد كان تآمر أخوته عليه وإلقاؤه في الجب وبيعه بيع الرقيق وإلقاؤه في السجن؛ كل ذلك كان سبباً في توليه منصب عزيز مصر ثم ملك مصر، وإقرار أخوته بأفضليته عليهم، وكذلك ظهر ذلك في تصرف يوسف عندما جعل السقاية في رحل أخيه فظهر أخوه بذلك في صورة السارق واحتفظ به إلى جانبه، وكان كل ذلك سبباً في نجاة عائلة يعقوب من شظف العيش وجفاف البادية وهجرتهم إلى بلد ذي جنات وعيون وكنوز ومقام كريم، ومن مقتضيات هذا الاسم الظهور بالعلم والتحلي بالجمال والظهور بسمات الكمال، ولذا كان يوسف عليه السلام يبادر بإظهار ما أوتيه من علم وما خُصَّ به من مكارم مما أثار حفيظة أخوته عليه في حين أن من يتولاه الاسم الحكيم العليم لا يبدي ما لديه من كمالات إلا بقدر معلوم هو ما تقتضيه الحكمة وتمليه طبيعة الأحوال كما كان شأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.

المراجع (كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد):
1- الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2- الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار، 2002.
3- الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار، 2003.
4- المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.

هناك تعليق واحد:

  1. أحسنت التدبر، فتح العليم الحكيم لك وآتاك رحمة منه هو

    ردحذف